سوريون.. أم أغلبية ـ وأقلية!
لعبت وسائل الإعلام، وما تزال تلعب دوراً تضليلاً في الأزمة السورية منذ البداية، بغض النظر عن الخندق التي وقفت فيه خلال مراحل هذه الأزمة
أخذ هذا التضليل اتجاهات متعددة، ساهم إلى حد كبير في استحداث وتعميق الاستقطاب المشوه في المشهد السوري، الأمر الذي ساهم في تعقيد الموقف، وفي تشويه الوعي الجمعي السوري أكثر فأكثر، تشويهاً طال حتى قضية الانتماء الوطني، حيث يتم تغطية هذا الرباط التاريخي المقدس بستارة من الدخان الكثيف من خلال الحديث عن ما يتعرض له كل «مكوّن» على حده.. فتارة هي قضية مسيحيين ومرة أكراد.. ومرة هي قضية سنة أو قضية علويين، مرة هؤلاء مستهدفين، ومرة أولئك، كل حسب موقعه وموقفه الافتراضي الذي يحدده دجّالو الإعلام في الصراع الجاري، لتغيب في ظل هذه البروباغندا القضية السورية باعتبارها قضية واحدة، قضية الكل السوري.
المأساة الراهنة امتدت أفقياً وعمودياً إلى كل البنية المجتمعية السورية إما اعتقالاً أو قتلاً او خطفاً أو تهجيراً أو تدميراً للمنازل وتشريداً أو جوعاً أو برداً، ولم تستثن أحداً، لتؤكد مرة أخرى ما هو مؤكد أصلاً، وما هو ثابت تاريخياً من خلال الممارسة – وما هو معلل معرفياً من خلال التحليل المنطقي على المصير المشترك لكل السوريين، وبالتالي فإن ثقافة التظلم التي تروّج من بعض النخب السياسية والثقافية والإعلامية وكأنّ هذه الجهة أو تلك هي وحدها المستهدفة هو إما جهل بالوقائع، أو اجتزاء للحقيقة يقصد منه تعقيد الموقف أكثر فأكثر، والتغطية على جوهر الأزمة التي تمر بها البلاد وسبل حلها.
دروس من التاريخ
تقول التجربة التاريخية، إنه رغم تمظهر الوضع بأنه وصل إلى الحضيض الغرائزي في ظل التناقضات المشوهة التي تفرض على الوعي الاجتماعي في هذه المرحلة التاريخية أو تلك، فإن تناقضات هذا الواقع نفسها، وحاجات الناس تنتج الحل، وتنتج الضمير الجمعي الذي قد يتكثف بهذا الرمز الوطني أو ذاك، بهذه الجهة السياسية أو تلك، ليظهر الوعي الاجتماعي الكامن على حقيقته وفي أبهى صوره، ويطيح بكل الوعي الزائف الذي حاول تسويقه من يتعاطى مع التطور التاريخي على طريقة البصّارات، وبالملموس :
«يوم أبلغ الجنرال غورو فارس الخوري أن فرنسا جاءت إلى سورية لحماية… مسيحيي الشرق، فما كان من فارس الخوري إلا أن قصد الجامع الأموي في يوم جمعة وصعد إلى منبره وقال: إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله فأقبل عليه مصلو الجامع الأموي وحملوه على الأكتاف وخرجوا به إلى أحياء دمشق القديمة في مشهد وطني تذكرته دمشق طويلا وخرج أهالي دمشق المسيحيون يومها في مظاهرات حاشدة ملأت دمشق وهم يهتفون لا إله إلا الله» وفي مشهد وطني آخر ينهض مارد الوعي الوطني التاريخي من رحم الأزمة التي عصفت بالبلاد إبان حكم الاستعمار الفرنسي وذيوله المحليين على لسان قائد جيوش الثورة السورية سلطان باشا الاطرش:
«يا بني وطني: ليس لكم بعد الآن، على اختلاف المذاهب والفئات. إلا عدو واحد هو الحكم العسكري الجائر والاستعمار الأجنبي، فانفروا إلى إنقاذ البلاد من أوضاعها السيئة، وارفعوا علم الاتحاد والتضامن والتضحية. إن حركتنا اليوم هي حركة مقدسة، غرضها المطالبة بالحرية والاستقلال وضمان حقوق البلاد على مبدأ سيادة الأمة. فليتحد الدرزي والسني والعلوي والشيعي والمسيحي اتحاداً وثيقاً. وليؤلف بين قلوبنا الإخاء القومي ومحبة الوطن، ولتكن إرادتنا إرادة حديدية واحدة»
الآن هنا، سورية مرة أخرى!
في ظل عمليات النزوح، أو التهجير الجماعي وفي وقت كان أمراء الفتنة، يصرون على تقسيم الناس مللاً ونحلاً كان للسوريين فلسفتهم الأخرى، التي تعبر عن النزوع الوطني والإنساني في الثقافة السورية، فالأرض السورية هي ملك كل السوريين، وكان أن لقي ابن حلب أماناً في اللاذقية، و ابن دير الزور راح يستقر في القامشلي، وكذلك ابن درعا في جبل العرب، ولم تنجح كل محاولات إثارة الفتن على أساس طائفي أو قومي أو ديني، واليوم مع تحديد موعد انعقاد المؤتمر الدولي لحل الأزمة السورية ـ يتصاعد الحديث عن ما يسمى بالمكونات، وكأن كل « مكوّن» له مشكلة خاصة يمكن حلها بمعزل عن الآخر، وعلى هذا الأساس يدأب البعض على اتهام المهجرين بتفجير الأوضاع في بعض المناطق التي استقروا بها، كل ذلك تحضيراً لحلٍّ مشوّه وملغوم قائم على أساس هذه الانتماءات، ولايغير في حقيقة هذه المحاولات حديث بعض الوعّاظ عن الأخوة، فالأخوة عند هؤلاء تطرح كبديل عن كون الشعب السوري شعباً واحداً تاريخاً ومصيراً.