خيوط الوهم..
كانت حركة المجتمعات والتاريخ تتم على شكل موجات متصاعدة ومتعاقبة تعبر عن انفتاح الأفق أمام القوى الممثلة لأحدهما وانغلاقه أمام قوى الآخر والعكس صحيح..وذلك منذ انقسام المجتمع البشري على أساس العمل ورأس المال .
وكان انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية تعبيراً عن انغلاق الأفق أمام الحركة الثورية العالمية وقواها وانفتاحه أمام الرأسمالية وقواها..وقد أحدث ذلك صدمةً وبلبلة فكرية وسياسية، فالكثيرون تاهوا وغرقوا في أوهام متعددة..سواء الذين كانوا يعتبرون أنفسهم شيوعيين وتقدميين ويدعون الثورية، أو لدى الرأسماليين والليبراليين والقوميين والدينيين وغيرهم..
فالقسم الأول تصرف بعقلية المهزوم واعتبر كل ما سبق أحلاماً وردية لا أساس لها وبعيدة عن الواقع، أو بعقلية الجاهل الذي لم ير ما يجري من تحولات اقتصادية اجتماعية لأن فكره كان مبرمجاً بشكلٍ جامد وبالتالي لم يستوعب ما حدث، أو العدمي الذي وقف صامتاً أو تخبط لأنه كان بعيداً عن الواقع والجماهير، وآخرين منهم انقلبوا كلياً وتحولوا إلى ليبراليين في المعسكر الآخر، وتخلوا حتى عن القوانين التي أثبتها التاريخ والعلم والواقع، كالصراع الطبقي ومفاهيم الطبقة العاملة والاشتراكية وغيرها..بل باتوا ينظّرون ضدها ويتهمون كل من لا يوافقهم أو يقف ضدهم بالغباء..
والقسم الثاني غرق في وهم الانتصار وأنه القطب الأوحد في العالم وأنا ربكم الأعلى، واعتبر ما حدث نهاية التاريخ وأن الصراع صراع حضارات وأديان وبدأ يصول ويجول ويعيث في الكون فساداً وانتعشت القوى الرجعية وجرى الترويج لها بكل الوسائل المادية والإعلامية وامتدت تحت مسميات ومفاهيم متعددة دينية كالصحوة الإسلامية أو اجتماعية كلجان المجتمع المدني وحقوق الإنسان، أو اقتصادية كاقتصاد السوق الاجتماعي وغيرها وترافق ذلك مع تصاعد القمع والعنف والتكفير..
الثنائيات الوهمية
لقد انبثق عن ذلك كثير من الثنائيات الوهمية التي بدأت تنسج خيوطها كبيت العنكبوت على الفريسة ومن ثم تراكمت وتشابكت وصارت كشرنقة أو كتلة عنقودية وصولاً إلى الأزمة، وظن البعض أنه لا يمكن تفكيكها والخلاص منها ..
فمن الثنائيات الوهمية ما لها طابع ديني كإسلامي مسيحي..أو ديني طائفي..سني شيعي وغيرها..أو ما لها طابع قومي كعربي كردي وعربي فارسي..أو ما لها طابع اجتماعي كالعشائرية أو جغرافي كداخل وخارج وريف ومدينة، أو أخلاقي كإنساني ولا إنساني والخير والشر،أو طابع سياسي كنظام ومعارضة والدكتاتورية والديمقراطية المطلقتين ومنها العسكرية كالحسم والإسقاط وهي الأخطر وقادت البلاد إلى الجحيم وسيلان الدم السوري والخراب والدمار..
وقد سعت الامبريالية في الأزمة الحالية إلى استغلال هذه الثنائيات الوهمية وتكريسها لتحقق مزيداً من النهب لثروات الشعوب والبلدان المادية كالنفط والغاز وغيرهما، والمعنوية كالكادرات والعقول. وبما أن الحرب هي الرئة الحديدية التي تتنفس منها الرأسمالية ولصعوبة قيام حرب عالمية بسبب الردع النووي قامت بإغراق العالم في حروب داخلية وإقليمية تتيح لها حرف الصراع عن جوهره الأساس ولتنشيط احتكارات السلاح والنفط وفرض هيمنتها ورأس حربتها الرأسمال المالي الذي يتمتع بقدرة عالية على التنقل والحركة وذلك عبر شركات متعددة الجنسيات والبنك والصندوق الدوليين التابعين لها وحكومات وأنظمة وتنظيمات تابعة ومشاريع وهمية كالشرق الأوسط كبيره وصغيره وأدخلت العالم والبلدان والشعوب في أزمة شاملة بسبب اللبرلة كالذي نشهده في منطقتنا خاصة لتحطيم القدرات العسكرية المقاومة لها للخروج من أزماتها الدورية المتلاحقة وأزمتها العامة التي هي من طبيعة نظامها الاستغلالي وأزمتها الحالية التي قد تكون نهائية...
الثنائيات الحقيقية
لا شكّ أن من يملك المنصة والقدرة المعرفية قادر ليس على فهم ما جرى فقط ..بل العمل على بناء رؤية واقعية على المستوى العالمي والإقليمي والداخلي تتيح له القدرة والإمكانية على تعرية وتفكيك هذه الثنائيات الوهمية وبناء قاعدة اجتماعية وسياسية تتيح له الخروج من الأزمة واستعادة دوره الوظيفي والعمل وفق الثنائيات الحقيقية كحرب وسلم ووطني ولا وطني، ناهب ومنهوب، مُستَغِل ومستغَل وغيرها..
وأهمها ثنائية الشعوب والرأسمالية لمواجهة المشاريع الإمبريالية العالمية ومعاجلتها بالضربات والانتصار عليها سياسياً واقتصادياً اجتماعياً وديمقراطيا..بل والقضاء عليها نهائياً، وخاصةً أن التطورات والوقائع على الأرض كانفجار الحراك الشعبي وتفاعلاته الذي كشف زيف الثنائيات الوهمية وأكد الحقيقية، التي تتناسب مع طموحات الشعوب ومصالحها لتحقيق الحرية للبشرية واشتراكية القرن الحادي والعشرين..