التوازن الجديد وطريق الانتصار
التوازن العالمي الجديد، ظاهرة معاصرة ومحورية في فهم الصراعات السياسية الدولية الحالية ومآلاتها وموقع وحجم بلدنا في خارطتها، من أجل صياغة المفردات الصحيحة للبرامج السياسية لأية قوة ثورية جدية تريد أن تحقق دورها الوطني والطبقي المطلوب في النضال من أجل مستقبل أفضل لشعوب المنطقة والعالم.
جوهر التوازن العالمي الجديد
إذا كان ما يسمى «التوازن الدولي»، بين الدول الرأسمالية القديمة، في المساحة الجيوسياسية للإمبريالية الأمريكية-الأوروبية الغربية، من جهة وبين الدول الرأسمالية الصاعدة اقتصادياً (دول «البريكس» وربما منظمة شنغاهاي الأوسع اليوم) هو الشكل الذي يظهر به التوازن العالمي الجديد، فإنّ محتوى هذا التوازن العالمي إنما هو التوازن الطبقي بين قطب الرأسمالية كلها عموماً من جهة، وقطب الشعوب من جهة أخرى.
إذا كانت الأزمة الجديدة التي هزت الاقتصاد الرأسمالي للإمبريالية وتكشفت بطورها الأول (المالي) منذ العام 2008 قد أرست المعالم الأولية لهذا التوازن العالمي الجديد، فإن التشابهات والاختلافات بين التوازن الحالي والتوازنات السابقة في القرن العشرين يمكن أن نتلمس بعضها عبر النظر إلى المسألة من إحدى زواياها، وهي زاوية ردود فعل الإمبريالية إزاء أزماتها، والبدائل والمخارج التي تطرحها، وهنا سنحاول فتح المقاربة من خلال المقارنة بين شروط قيام الفاشية القديمة كمحاولة لحلّ الأزمة الإمبريالية في مطلع القرن العشرين، والفاشية الجديدة كمحاولة لحل أزمتها في القرن الواحد والعشرين.
بدائلهم وبدائلنا
اختيار البدائل التاريخية نفسها للهيمنة الإمبريالية (الفاشية الجديدة) ورغم تمكنها من الوصول إلى السلطة كقوة للثورة المضادة وعدوان استباقي على القوى الثورية الحقيقة يدل على تكرار حالة التوازن، لتكون صحيحة آخر الاستنتاجات المعرفية في هذا المجال والتي صاغتها آخر القوى الثورية العالمية المنظّمة المنتصرة في النصف الأول من القرن العشرين، ممثلة بالحركة الشيوعية العالمية التي استطاعت قيادة شعوبها للنصر على الفاشية القديمة، إذ تذكر في وثائق المؤتمر السابع للكومنترن المنعقد في آب 1935:
«ما يميز انتصار الفاشية هو أنّ هذا النصر، يشهد من جهة على ضعف الطبقة العاملة، التي شُلّت وتشتت تنظيمها بوساطة السياسة التفتيتية التي انتهجتها الاشتراكية الديمقراطية في التشاركية الطبقية مع البرجوازية. كما أنّه يشهد من جهة أخرى، على ضعف البرجوازية بحد ذاتها، وعلى مخاوفها من تحقق وحدة كفاح الطبقة العاملة، ومن الثورة، ومن انتهاء قدرتها على إدامة دكتاتوريتها على الجماهير بالطرق القديمة للديمقراطية البرجوازية والبرلمانية.»
ولكن من الأمور الجديدة انهيار البديل بسرعة نسبية أكبر بكثير من عمر البديل نفسه في الأزمات السابقة (الفاشية القديمة)، ذلك أنّ التوازن الجديد ليس تكراراً للتوازن القديم نفسه، ولو أنه يظهر كذلك إذا أخذ في سكونيته. لكن إذا أخذ في حركيته هو ذلك التوازن المؤقت الذي منحاه العام ذاهب باتجاه الرجحان المتزايد لقوى الطبقات الكادحة (قطب الشعوب) على حساب كفة البرجوازية الكبرى الآفلة.
«الفاشية كانت قادرة على الوصول إلى السلطة لسبب أساسي وهو أن الطبقة العاملة، بسبب سياسة التشاركية الطبقية مع البرجوازية، والتي اتبعها زعماء الاشتراكية-الديمقراطية، أبدت انقسامات في صفوفها، ونزعاً لأسلحتها السياسية والتنظيمية، في وجه هجوم البرجوازية. ولأنّ الأحزاب الشيوعية، من الناحية الأخرى، لم تكن قوية بما فيه الكفاية لإيقاظ الجماهير ولقيادتهم في كفاح حاسم ضدّ الفاشية.»
هكذا حلل مؤتمر 1935 للأممية الشيوعية أسباب وصول الفاشية للسلطة آنذاك، وإذا نظرنا إلى الفاشية الجديدة المعاصرة نجد أن أسباباً مشابهة مكنتها إلى الوصول من السلطة، لكن يجب أن نبقي اليقظة الثورية عالية فيما يخص الأسباب التي أسقطتها سريعاً من السلطة (فاشية الإخوان المسلمين في مصر نموذجاً)، والتي تتعلق بعوامل موضوعية جديدة، الضعف غير المسبوق والأزمة الأعمق والأشمل للإمبريالية، أكثر منها بسبب الدفاع والمقاومة الفعالة من جانب الكادحين التي مازالت بعيدة عن التسلح السياسي والتنظيمي الكافي لردع وهزيمة أية أشكال جديدة مبتكرة قد تظهر بها الفاشية الجديدة مرة أخرى.
انهيار شكل واحد من أشكال الفاشية الجديدة لا يعني انتهاء محاولات إنشاء أشكال جديدة أكثر خبثاً وخديعة، وهنا يجب الانتباه إلى خصوصية كل بلد، كما حذّرنا آخر المنتصرين على الفاشية القديمة: « تطور الفاشية، والدكتاتورية الفاشية نفسها، تتخذ أشكالاً مختلفة في البلدان المختلفة، وفقاً للشروط الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية، والخواص القومية، والموقع الدولي للبلدان المعنية.»، مع عدم نسيان جوهر الفاشية الذي اكتشفه الشيوعيون في الجلسة الثالثة عشرة للّجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، إذ عرّفوها بأنها: «الدكتاتورية الإرهابية السافرة للعناصر الأكثر رجعية وشوفينية وإمبريالية من رأس المال المالي.»
انهيار أشكال وتنويعات البديل التاريخي للإمبريالية المأزومة يحمل الدلالة التاريخية على ضرورة اقتراب تشكل بدائل تمثل قطب الشعوب، ولذلك فإنّ العمل على تشكيل وبناء هذا البديل التقدمي منذ اليوم هام وحاسم ليس من أجل تقصير المعاناة البشرية والكلفة الناتجة عن تجريب القطب الإمبريالي المتراجع لعدة أشكال أخرى قد يبتكرها لفاشيات جديدة، بل ولأن إجهاض البديل الفاشي الجديد في مهده اليوم قبل أن يكبر ويقوم بالعملية الانتحارية الأخيرة التي قد لا يبقى بعدها بشر يخبرون عنها. هذا يعني أنّ هناك مهمتين متلازمتين معاصرتين أمام قطب الشعوب وقواها الثورية:
أولاً: تشكيل أوسع جبهة موحدة واسعة لإجهاض أي شكل من أشكال الفاشية الجديدة قد تحبل به الإمبريالية من أزمتها التاريخية الحالية، لضمان قطع نسلها بشكل نهائي، وبالتالي إنقاذ مستقبل البشرية.
ثانياً: العمل المتزامن على تشكيل البديل الثوري الحقيقي، الطليعة الثورية المعاصرة، الممثل لمصالح قطب الشعوب وكسب شعبيتها لتصبح قواعد جماهيرية لها تعمل على تنظيمها وتوجيهها لبناء النظام اقتصادي-الاجتماعي الاشتراكي الجديد (اشتراكية القرن الواحد والعشرين)، كبديل عن الرأسمالية، يحقق أعمق عدالة في توزيع الثروة اجتماعياً وأعلى نمو اقتصادياً.