الفكر السياسي وديالكتيك المحتوى والشكل
المتتبع للحياة السياسية في سورية يجد أن الأزمة كشفت عيوباً عميقة إنتابت الفكر السياسي الذي اتسم بالعجز عن التقاط اللحظات الفاعلة والمؤثرة في اتجاهات تطور الظواهر، كما أنه لم يثبت فاعلية وقدرة على إحتواء الأزمة وتقديم الحلول المناسبة في أوقاتها المفصلية،
ومن البدهي القول أن ذلك مرتبط بظاهرة جهل الواقع والاكتفاء بما على سطح الظواهر، ولم يتمكن من وضع اليد على الآثار العميقة التي تركتها العلاقات السياسية والاقتصادية، ولم يتمكن من تلمس تفاعلات كل ذلك على المستوى الاجتماعي وما في أعماق الوعي الاعتيادي.
إن هشاشة الفكر السياسي تجلت في تلك الأراء التي كانت تبشر أن الحرب لن تدوم إلا أياماً معدودة؟ وقبلها قالوا مع اندلاع الظواهر الفاقعة للأزمة أن الأمور لا تتعدى عشرة أيام وتعود الأوضاع إلى وضعها الطبيعي. ولست مبالغاً أن الفكر السياسي تحول عند البعض إلى ظاهرة دعائية تفتقر لقدر من الحقيقة.
والآن فإن الفكر السياسي عند البعض يخلط بين محتوى الظاهرة وشكل تجليها، كما يجهد نفسه عند البعض في اتجاه يرى أن المضمون مازال كما كان قبل 7 سنوات أو 8 سنوات، ويضيف البعض أن الشكل لا تأثير له وأن المهم هو المضمون الذي يستعيرونه من التاريخ البعيد أو القريب. ولا غرابة إن كان أحد مظاهر أزمة الفكر السياسي تكمن في تزوير التاريخ وقد وصل البعض إلى الأدعاء أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الإمبريالية الكبرى هي دول صديقة للشعب السوري.
وقد تزايدت المجاهرة بذلك وخاصة بعد أن قررت إدارة أوباما تسليح قوى المعارضة. وفي تلك الآراء تجاهل متعمد للأهداف الفعلية التي ترمي لها الدولة الامبريالية الكبرى.
وقبل كل شيء يمكن أن نلخص أفكار الماركسية التي تناولت العلاقة بين المحتوى والشكل ورأت فيها علاقة ديالكتية. علاقة تضاد وتناقض ووحدة، وقد قال لينين «نضال المحتوى ضد الشكل، والعكس، خلع الشكل وإعادة المحتوى».
إن إنكار دور الشكل هو نتاج عدم الفهم العميق لتأثير الشكل على المضمون وتدل الأزمة التي أخذت شكل الحرب، أن هذا الشكل بمكوناته وخصائصه أثرت في مضمون ما طرح أيام الأزمة في أشهرها الأولى، إن شكل الظاهرة ليس عبثياً، رغم اتسامه بالثبات، إلا أنه يظل أيضاً في نطاق التغيرات التي تجعله ملائماً للمضمون، وكثيراً ما كان تجميد الشكل سبباً في نسف المضمون وهو ما كان واضحاً في انهيار الاتحاد السوفيتي.
ويمكن القول إن الأزمة السورية تمت وتطورت تحت تأثير عوامل عديدة من أهمها ثبات أشكال العلاقات السياسية. وقد مهد ثبات تلك الأشكال إلى التأثير في الاصطفافات الاجتماعية. إن تغير الشكل لا يمكن أن يبقي المضامين التاريخية المعروفة، ويلاحظ أن الاصطفاف الطائفي وتزايده دفع إلى مضامين انتشلت من التاريخ البعيد والقريب وكأننا في حقبة معارك التكوين الطائفي، ويمكن القول أن أشكال الاصطفاف الطائفي أثر في المضمون السياسي، ومعروف أن جماعات مسلحة تطرح «الدولة الإسلامية» وقد تراجعت الشعارات التي طرحت في المرحلة الأولى من تفجر الأزمة وتراجعت شعارات «الدولة المدنية» والديمقراطية ويكاد يغيب شعار «واحد واحد واحد» الشعب السوري واحد.
أليس من العقلاني أن شكل الاصطفاف الاجتماعي الذي تعمقت فيه الطائفية لم يعد ممكناً حقنه بمضامين تاريخيه، أليس ذلك الشكل يدفع نحو مضامين تعود إلى ما قبل مئات السنين.
إن المحتوى الطائفي الذي يصل إلى التكفير وإلى الشعارات وكأن الوضع هو كما كان أيام الأمويين. وهذا الشكل يؤثر في المضمون والمضمون يفرض التغيرات التي تلائمه.
إن الطائفية في أشكالها ومحتوياتها الفاشية دفعت إلى جرائم وأشكال من القتل لا يعرفها تاريخ سورية. ولم تأت اللعنة الطائفية من الشيطان بل ترعرعت أشواكها في دول المنطقة تحت تأثير عوامل متعددة.
إن الطائفية معادية للدين والإيمان ومعادية للقيم الوطنية والإنسانية، ويلاحظ أن الأهداف العظيمة والنضال ضد الإمبريالية والصهيونية لن تتحقق بممارسات طائفية، وعلى العكس من ذلك فإن الطائفية بمختلف الممارسات ضمن الدولة أو تلك لا تجدي في إضعاف سيطرة ونفوذ الدول الاستعمارية وتنتهي تلك الأنشطة إلى حروب الشعب الواحد وحروب شعوب المنطقة أو بعبارة أخرى فإن الأشكال الطائفية ومحتواياتها ومختلف الأنشطة والممارسات المرتبطة بها أو المتأثرة بها لا تصلح لنضال جاد ضد الاستعمار والصهيونية، كما لا تصلح لبناء دولة عصرية وطنية مهما كانت النوايا حسنة.
ننتهي للقول إن إنهاء الحرب بين السوريين هو المدخل المباشر لإيقاف محتويات وأشكال الزحف الطائفي، ولا ننسى أن أماني الصهيونية والإمبريالية تذهب نحو أن يندلع صراع طائفي على الأراضي السورية كي تندفع الحرب في العديد من الدول المجاورة، وطبيعي القول إن هذا الشعار الطائفي فرض على الكثيرين طرح التقسيم كمسار وأفق لإنهاء الأزمة السورية.