الطريق إلى جنيف..
تضفي التناقضات الداخلية لمواقف الغرب الاستعماري عموماً وفي مقدمته واشنطن، الناتجة أساساً عن أزمتها الرأسمالية البنيوية الشاملة، شيئاً من الالتباس على فهم الخط العام الذي تسير وفقه أمور الغرب ذاته بخصوص الأزمة السورية..
فباستثناء الفقاعة اللاحقة في مؤتمر «أصدقاء سورية» في الدوحة وظهور «التباين» الأمريكي- القطري، لم يلبث الحديث السابق عن «تسليح المعارضة» وعن «الكيماوي» و«الحظر الجوي» يشتد ويأخذ مداه حتى جاءت قمة الثمانية في دبلن لتخرج ببيان أقل ما يقال فيه أنه انتصار سياسي للخط المناقض تماماً لخط التسليح والعنف والاقتتال. وعلى لسان أصحابه يقول البيان: «نحن نؤيد وبشدة اقتراح عقد مؤتمر للتوصل إلى حل سياسي للصراع المروع في سورية من خلال التنفيذ الكامل لبيان جنيف 2012» إضافة إلى خلو البيان من أي اشتراطات مسبقة.
إن الميل العام للأزمة السورية سواء بإحداثياتها المختلفة، قد تثبت نهائياً باتجاه الحل السياسي، ذلك الحل الذي سيأخذ جولات عديدة بطبيعة الحال، غير أن الصراع الأساسي في تلك الجولات سيكون سياسي الطابع. وانطلاقاً من الميل العام، فإن الحديث عن التسليح الذي ازداد فعلاً في الفترة الأخيرة، يمتلك منطقاً مختلفاً عن التسليح سابقاً، أي أن الغرض منه ليس كما كان في السابق إحداث انقلابات كبرى في موازين النزاع العسكري داخلياً، وليس ضمن استراتيجية طويلة الأمد تهدف لاستكمال إحراق سورية من الداخل بالسلاح، وإن كان هذا الإحراق لا يزال هدفاً أمريكياً ينبغي لتحقيقه استخدام أدوات جديدة سياسية واقتصادية واجتماعية، بالمعنى التفتيتي، إلى جانب العسكرية التي لن تستطيع الاستمرار سيدة للساحة لأمد طويل ضمن التوازن الحاصل. إن الغرض من التسليح اليوم لا يتعدى محاولة تعديل ميزان القوى على الأرض نسبياً من أجل تحصيل شروط أفضل للعملية السياسية.
وإذا كان التصعيد الميداني الذي يسير في خط موازٍ للتوافقات السياسية الدولية والتحضيرات لمؤتمر جنيف، قد بلغ حداً غير مسبوق على الجبهة الأمنية العسكرية والإعلامية السياسية خلال الأسبوع الماضي، فإنه ترافق بتصعيد غير مسبوق على الجبهة الاقتصادية لاستكمال جبهات الصراع ومحاولة فرض انهيار اقتصادي معيشي لتطبيق أكبر ضغط ممكن في الفترة المتبقية ما قبل بدء الحل السياسي، لتصبح تلك الجبهة بنداً رئيساً في «التفاوض» الحالي أو اللاحق. وتمثل ذلك التصعيد في أحد أوجهه الهامة بالهجوم الذي يشنه الدولار بلا هوادة على الليرة السورية، سواء بضخ كميات كبيرة من الليرة السورية في الأسواق المجاورة، أو من خلال المضاربة الجارية على قدم وساق على يد الصيارفة وشركات كبرى و«رجال أعمال» سوريين في الداخل، بالتكافل الضمني أو العلني مع المصرف المركزي، بحسن النية أم بسوئها، لا فرق.
إن جانباً آخر من عملية التصعيد الاقتصادي يتمثل في عمليات الضغط المستمرة التي يقوم بها الفاسدون الكبار في جهاز الدولة من أجل تحرير أسعار المواد الأساسية وعلى رأسها المحروقات تحت ذرائع شكلية متعددة، وهدفهم المضمر وراء ذلك هو خصخصة توزيع المحروقات وبالتالي الاستيلاء على أحد أهم القطاعات ذات الريع العالي جداً وأخذها «من راس الكوم» لإخراجها من التحاصص الذي يحضر له هؤلاء أنفسهم مع فاسدي المعارضة..
إن موازين القوى الحالية، وإن كانت لا تسمح باجتثاث هؤلاء وإخوانهم في الطرف المقابل، فإنها تسمح بتهيئة ظرف الحل السياسي والضغط لتسريعه لأنه الباب الأساسي الذي من خلاله فقط يمكن إعادة فرز قوى المجتمع السوري على أساس المصالح الوطنية العميقة، بعيداً عن الانقسامات الوهمية التي يجري الصراع على أساسها حتى الآن.