د. مصطفى البرغوثي في حوار خاص مع «قاسيون»: الانتفاضة مستمرة طويلاً... والمقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة جانبان متكاملان

د. مصطفى البرغوثي في حوار خاص مع «قاسيون»: الانتفاضة مستمرة طويلاً... والمقاومة الشعبية والمقاومة المسلحة جانبان متكاملان

 أجرت قاسيون حواراً مطولاً مع الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية، د. مصطفى البرغوثي، حول مجموعة من النقاط الأساسية المتعلقة بالانتفاضة الفلسطينية الحالية وآفاقها.

 

وتطرق الحوار إلى مجموعة الذرائع التي يسوقها البعض ضد العمل المقاوم المسلح، ورأي د. البرغوثي بذلك، وأيضاً تصوراته حول ما يميز الانتفاضة الراهنة نوعياً عن سابقاتها، وآفاق هذه الانتفاضة وتأثيراتها بما في ذلك على الحركة السياسية الفلسطينية.

د. مصطفى البرغوثي هو أحد الأسماء التي تحوز احتراماً عاماً في أوساط الشعب الفلسطيني على اختلاف توجهاتهم السياسية، وهو من مواليد القدس 1954، حاصل على شهادة بكالوريوس في الطب، وعلى شهادة عليا في الفلسفة من موسكو، وشهادة الماجستير في الإدارة وبناء الأنظمة الإدارية من جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة.

أسس مع د. حيدر عبد الشافي ود. إدوارد سعيد وإبراهيم الدقاق حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية. كما برز نشاطه بقوة خلال فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000–2005) حيث نشط إعلامياً في حشد التضامن مع القضية الفلسطينية وبناء الحملة الدولية لحماية الشعب الفلسطيني. وفي عام 2005 ترشح لمنصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية منافساً لمحمود عباس وحاز حوالي 20% من الأصوات.

وفيما يلي الحوار الكامل الذي أجرته قاسيون مع د. مصطفى البرغوثي

 

قاسيون - حوار مهند دليقان

 

هنالك البعض ممن يدّعي أنه مع المصلحة الفلسطينية ويقدم محاججة ضد المقاومة العسكرية تقول بأنّ الانتقال من المقاومة الشعبية نحو العسكرية كان عملاً مضاداً للمصلحة الفلسطينية وأدى وسيؤدي إلى تضييع تلك المصلحة، ما رأيك بهذه المحاججة؟

هذه محاججة فارغة، الفلسطينيون ليسوا هم من قرروا الانتقال إلى العمل العسكري، «إسرائيل» هي من دفع الأمور بهذا الاتجاه. من يقول هذا الكلام منزعج من وحدة النضال الفلسطيني ومن أن المقاومة الشعبية الباسلة التي خاضها الشعب الفلسطيني بشكل مستمر والتي تجلت طوال شهر رمضان المبارك في الشيخ جراح وفي القدس وفي باب العامود وأثبتت جدواها وقوتها، في لحظة ما عندما أمعن الاحتلال في عدوانه على المسجد الأقصى كان لا بد من اندماج للنضال الوطني والمقاومة الشعبية، وجاء رد الفعل من غزة بعد أن تم تحذير «إسرائيل»؛ جرى تحذيرهم بأنهم إن استمروا في هذه الاعتداءات فسيكون هنالك رد وهذا ما حصل.

وبرأيي هذا ليس استبدالاً للمقاومة الشعبية بالمقاومة المسلحة بل استخداماً للمقاومة المسلحة لتقوية وإسناد المقاومة الشعبية، تماماً كما كان يجري في جنوب أفريقيا، أي أن المقاومة الشعبية كانت أسلوب ردع للإحتلال الإسرائيلي وبعد أن تفاقمت الأمور بالعدوان على غزة وأماكن أخرى، كان لا بد أن يكون هناك قوة ردع، وقوة الردع نراها الآن في الكفاح المسلح الفلسطيني الذي يساهم مع المقاومة الشعبية في تغيير ميزان القوى.

لا يوجد تناقض بين الأمرين، الشكلان يكمّلان بعضهما البعض، من يهاجم المقاومة الشعبية مخطئ ومن يهاجم المقاومة بالردع والسلاح أيضاً مخطئ، يجب أن ينظر للأمر أنه تكامل في النضال الوطني الفلسطيني.

 

ضمن اختراع الذرائع هنالك من يذهب مذهباً شبيهاً بالقول إن نتنياهو كان يبحث عن مخرج بعد نتائج الانتخابات وتعذر تشكيل حكومة. وكأن أصحاب هذه الحجة يقولون إنّ إسقاط نتنياهو وإبداله بآخر كان سيكون نصراً كبيراً، وأنّ الانتقال نحو المقاومة العسكرية أبعدت هذا «النصر» المفترض، ما رأيك؟

 

اسمح لي بالقول إنّ أصحاب هذا الرأي يتسمون بالغباء السياسي؛ من يدير المعركة ضدنا الآن ليس نتنياهو فقط، بل أيضاً بيني غانتس «وزير الدفاع الإسرائيلي»، وهو من معارضي نتنياهو أصلاً. ومن المعسكر المعارض لنتنياهو، نحن لا نواجه نتنياهو وحده، طبعاً هو يستخدم ما يجري للتغطية على وضعه وخوفه من المحاكمة بسبب قضايا الفساد ولمحاولة البقاء كرئيس وزراء للكيان، ولكن نحن نواجه كل الحركة الصهيونية، نواجه جميع الأحزاب الصهيونية في «إسرائيل»، وهي تتفق مع نتنياهو في رفض حقوق الشعب الفلسطيني، وتتفق مع نتنياهو في أن القدس يجب أن تكون عاصمة موحدة لـ«إسرائيل»، وتتفق مع نتنياهو في رفض حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وتتفق مع نتنياهو في منع قيام دولة فلسطينية مستقلة... هم لا يختلفون مع نتنياهو في عدائهم للشعب الفلسطيني، يختلفون معه على المراكز والمناصب لا أكثر ولا أقل. لكن أنا لا أرى فرقاً بين نفتالي بينيت الأكثر تطرفاً من نتنياهو أو الموتور ليبرمان أو لابيد، كلهم في نفس الخط وهناك أيضاً سموتريش وهو أكثر فاشية.

بالتالي أنا أعتقد أنّ ما قيل عن هذا الموضوع وهمٌ كبير وينم عن غباء في النظرة للوضع السياسي الفلسطيني. وعلى العكس منه فإنّ ردود الفعل الفلسطينية من غزة، والمسّ بالأمن الإسرائيلي هو الذي جعل الإسرائيليين يدركون أن هناك ثمناً للاحتلال، وهو ما أعطى للشعب الفلسطيني الشعور بالعزة والكرامة وهزم مخططات اليأس والإحباط التي كان البعض يروج لها والتي ما زال البعض يروج لها بالقول إنه لا حل إلا بالمفاوضات العقيمة وأنه لا حل إلا باتفاق أوسلو الذي يرفضه الشعب الفلسطيني.

نحن الآن نعيش مرحلة جديدة جرت فيها نقلة كبيرة ترفض المراهنة على بايدن أو المفاوضات دون نتيجة، وترفض أيضاً استمرار التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي وهو تنسيق يجب أن يزال وينتهي فوراً، من المعيب أن يكون الشعب الفلسطيني بأسره في مواجهة مع الإسرائيليين وفي الوقت نفسه يكون هناك تنسيق أمني معهم.

 

ما هو الجديد في هذه الانتفاضة، سواء بالمعنى الداخلي الفلسطيني، أو في الظرف الدولي الذي تجري ضمنه هذه الانتفاضة؟ ما هو الجديد النوعي ضمن هذه الانتفاضة؟

 

هنالك عدة أشاء جديدة، أولاً هذه الانتفاضة ليست كالأولى أو الثانية، ولذلك لا يجب الحكم عليها بالمقارنات، هي لها طابعها الخاص وأعتقد أنها مستمرة على شكل موجات متتالية، وقد بدأت موجتها الأولى في عام 2015، ثم تكررت بأشكال مختلفة، والآن هي مستمرة دون تردد ودون شك، وحتى حين تنتهي المواجهة العسكرية ستستمر بأشكال المقاومة الشعبية المختلفة.

ثانياً: لأول مرة يحدث هذا المستوى الرائع من الوحدة، وحدة النضال بين الداخل والخارج والأراضي المحتلة؛ صحيح أن أهلنا في الداخل كانوا دائما يتضامنون مع نضال الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ولكن الموضوع الآن مختلف، هذا ليس فقط تضامناً مع النضال الفلسطيني في الضفة وغزة، هذه شراكة في النضال، وهذه الشراكة نتجت عن اقتناع الجميع اليوم وبإقرار من منظمات حقوق الإنسان بأن «إسرائيل» تمارس التمييز العنصري ليس فقط ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة وإنما أيضاً ضد الفلسطينيين في القدس وضد الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني وفي الخارج أيضاً.

ثالثاً: برأيي أن هذا سيؤدي إلى تغير في الهدف الاستراتيجي الفلسطيني الذي لم يعد كافياً أن يكون إنهاء الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل يجب أن يكون أكبر من ذلك، وبالإضافة إلى إنهاء الاحتلال والاستيطان يجب أن يكون الهدف هو إنهاء نظام الفصل العنصري في كل فلسطين دون استثناء.

 

 

ضمن الأفق الاستراتيجي أيضاً، إلى أين ستذهب هذه الانتفاضة؟ يكثر الحديث بين محللين ومفكرين صهاينة من طراز يوفال ديسكين وبن ديفيد وغيرهم حول نهاية الكيان؛ سمعنا حديثاً عن النهاية بعد جيلين والنهاية بعد جيل انطلاقاً من قضايا الحريديم ووصولاً للتخوف من التوازنات الدولية الجديدة... ما رأيك؟

أولاً يجب عدم المبالغة وعدم تحميل هذه المرحلة أكثر مما تستطيع تحمله حتى لا يحدث إحباط، نحن أمام معركة طويلة، لكن كل ما قيل بهذا المجال والتنبؤ بزوال الكيان الصهيوني مرتبط بالأزمة العميقة للحركة الصهيونية، ما هي هذه الأزمة؟

الصهيونية كانت تقوم على هدفين، الاستيلاء على الأرض بالقوة وهذا تحقق بالقوة العسكرية، بدأ في 1948 واستكمل في 1967. والنقطة الثانية هي إنهاء الوجود الفلسطيني البشري عبر التطهير العرقي كما جرى عام 1948وجزئياً عام 1967.

معضلة الحركة الصهيونية أنه رغم النكبة عام 48، فإنّ الشعب الفلسطيني تعلم الدرس وخاصة في 67 ورفض أن يترك أرضه، وبالتالي أصبح الآن عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية بما فيها الأراضي المحتلة والداخل الفلسطيني يتجاوز عدد اليهود الإسرائيليين، هذه هي معضلة الحركة الصهيونية، هي لم تستطع أن تنفذ تطهيراً عرقياً واسعاً، لا الظروف الدولية تسمح بذلك ولا مقاومة الشعب الفلسطيني تسمح بذلك، لذلك حاولوا أن يمتصوا العنصر الديمغرافي بثلاثة وسائل: الأولى فصل غزة عن الضفة، وهذا فشل لأن غزة ملتحمة مع الضفة كما ترون، الثانية كانت احتواء الفلسطينيين في الداخل بـ"أسرلتهم" أي بفرض النمط الإسرائيلي عليهم، وهذا أيضاً فشل، واليوم انتفاضة يافا وحيفا وعكا والناصرة والجليل كلها تدل على فشل مشروع الأسرلة، وهؤلاء أبناء شعبنا في الداخل لا يقلون وطنية بل وتزيد وطنيتهم عن الجميع. الوسيلة الثالثة هي احتواء الضفة الغربية من خلال الحكم الذاتي الهزيل تحت السيطرة «الإسرائيلية»، وهذا فشل لأن الضفة تمردت عليه وعلى اتفاق أوسلو. واليوم هناك مطالبة شاملة بالتحرر من اتفاق أوسلو وإنهاء التنسيق الأمني. والسلطة الفلسطينية نفسها التي راهنت على المفاوضات هي نفسها أُحبطت لأن الجانب الإسرائيلي لم يعطها شيئاً، وبالتالي نحن نشهد اليوم فشل المشروع الصهيوني وبالتالي لا يوجد أمام الحركة الصهيونية إلا واحد من حلّين، إما أن تنهي احتلالها بشكل فوري وتلبي حقوق الشعب الفلسطيني بالداخل فوراً، أو ستكون هنالك دولة واحدة ديمقراطية على كل أرض فلسطين، للفلسطينيين فيها كل حقوقهم مع إسقاط كل عناصر النظام العنصري الإسرائيلي.

 

 

كيف ستؤثر هذه الانتفاضة على وضع الفصائل الفلسطينية، ليس وضع الفصائل الفلسطينية التقليدية فقط وإنما مجمل الحراك الوطني الفلسطيني بما فيه الحركات المستجدة؟

هنالك أزمة داخلية عميقة في النظام السياسي؛ هنالك فصائل تتولى مسؤوليات ومواقع ولم تعد لديها قاعدة شعبية، ولذلك كانت خائفة من الانتخابات وبعضها لم يتجرأ على الدخول في الانتخابات وبعضها كان يحلم بإلغاء الانتخابات كما حدث، وبالمقابل هنالك قوى عديدة حية وجديدة، ولكن ليس لها تمثيل في مركز صنع القرار الفلسطيني الرسمي.

اليوم، للخروج من هذه الأزمة ينبغي إنشاء قيادة وطنية موحدة، نحن نأمل أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية نفسها لأننا نريد أن نحافظ على الجسم الذي يمثل الشعب الفلسطيني، ولكن يجب أن تُفتح أبوابه للقوى كلها بما فيها حماس والجهاد، ويجب أن يكون هنالك مركز قرار فلسطيني موحد، قيادة موحدة ليست مسؤولة فقط عن القرار الكفاحي، وإنما السياسي أيضاً، هذا هو الهدف الذي يجب أن يتحقق وللأسف جرت مراوحة طويلة في المكان... أمس مثلاً عقد اجتماع للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هنالك الكثير من القوى غير ممثلة في اللجنة التنفيذية، لا الجهاد ولا حماس موجودة في المنظمة، ولا المبادرة الوطنية ولا الجبهة الشعبية موجودة، لذلك الاجتماع كان ناقصاً، الأفضل أن تتم الدعوة لاجتماع الأمناء العامين الذي يضم جميع القوى الفلسطينية ومن هذا الاجتماع يجب أن تنبثق قيادة موحدة من خلال مؤسسات منظمة التحرير، هذا هو الهدف المطلوب وهذا ما يستقيم مع التغير الحاصل في توازنات القوى على الأرض.