افتتاحية قاسيون 959:  تعاطف... تضامن: روح العالم الجديد

افتتاحية قاسيون 959: تعاطف... تضامن: روح العالم الجديد

كرّس النظام العالمي السائد، ليس في القرن الأخير فحسب، بل منذ انطلاق حملات البحث عن الذهب، والتي تطورت لاحقاً نحو حملات الاستعمار القديم، مبدأ الربح بوصفه المبدأ الأسمى الذي تشتق منه شتى «المبادئ» الأخرى.

ولكي يمهد أصحاب الربح الطريق أمامهم في وجه الحس الاجتماعي الطبيعي للناس، كان لا بد من تدمير ممنهج وطويل الأمد لإنسانية الإنسان، وفي المقدمة تدمير انتمائه للناس الآخرين وتعاطفه معهم.

تكرّس اغتراب الإنسان عن الطبيعة وعن المجتمع وحتى عن نفسه، وسادت الأخلاقيات المصلحية والانتهازية والفردانية، وكل ذلك خدمة للربح الذي وصل مع الأزمة الراهنة إلى منتهى تطوره التاريخي بوصول معدله الوسطي إلى الصفر.

الحكومات الغربية، والتي ترفع اللواء العالمي لنظام الربح، «تناضل» لحماية الشركات الكبرى من الأثر الاقتصادي لكورونا ولأسعار النفط، وتصر على منع إيقاف «حركة السوق»، ملقية بالعمال إلى جحيم الانتشار الكارثي للوباء، ومقدمة إياهم قرابين خدمة للشركات الكبرى التي التهمتهم سابقاً بالتجزئة، وباتت الآن بحاجة لالتهامهم بالجملة، لعلّ ذلك يخفف من حدة التناقض الجوهري بين العمل ورأس المال.

وفي ظلمة السعي الأعمى نحو الربح، تشع نماذج آسرة من التضامن والتعاطف الإنساني الذي يشق طريقه عبر الكوكب من قلوب المتضررين وإلى قلوب المتضررين. تحمل لواء هذا التعاطف بلدان ليس غريباً على تاريخها أن تفعل ذلك؛ وفي مقدمتها الصين وروسيا وكوبا، التي بنت جسوراً إنسانية محملة بالأطباء واللوازم الطبية المختلفة، باتجاه بلدان شتى بغض النظر عن مواقف حكوماتها. وذلك في الوقت نفسه الذي لا تزال فيه بعض الدول الغربية تبحث في محافظها العاجزة عن بعض الفتات لتخصيصه لتمثيل حالة التصدي لكورونا، في حين تتركه يسرح ويمرح فعلياً، ولا نعلم كيف تظهر في أوقات العجز نفسها، ترليونات الدولارات من قبعة الساحر فجأة ليتم إلقاؤها للشركات الكبرى المتعثرة...

إنّ الحضارة البشرية تقف اليوم فعلاً أمام مفترق طرق، فالأزمة الراهنة باتت مكتملة الأركان؛ ليست أزمة اقتصادية فقط، ولا اجتماعية أو بيئية فقط، ولا إنسانية فقط، بل هي هذه كلها وفي وقت واحد، ولذا فهي أزمة نموذج حضاري، أزمة حضارية شاملة من ذلك الطراز الذي لم يشهد العالم مثيلاً له منذ عدة قرون خلت.

وإذ تقف البشرية على مفترق طرق حضاري، فإنها تحمل معها، إلى جانب التطور العلمي والتكنيكي العظيم الذي حصلته، سلاحاً أكثر قوة ومضاءً، سلاح التعاطف والتضامن الإنساني، الذي يشكل روح وأداة النضال ضد العالم القديم الذي ما تزال البشرية في طور التخلص من أدرانه، وكذلك روح وأداة بناء العالم الجديد.

آخر تعديل على الأحد, 29 آذار/مارس 2020 23:09