افتتاحية قاسيون 622: «القديم» و«الجديد».. والاصطفافات الحقيقية
جاءت تفاعلات الأزمة السورية، بشقها السياسي، لتظهر أن الهياكل السياسية التي أنشئت على مقاس محاولات التدخل الخارجي المباشر في حينه- «مجلس اسطنبول» بالدرجة الأولى- باتت غير قابلة بنيوياً ومنطقياً للاستمرار، بنتيجة ميزان القوى الدولي المتشكل
والتي بدأت معالمه بالظهور عملياً مع أول فيتو روسي- صيني مزدوج يلجم ذاك النمط من التدخل، الأمر الذي دفع بـ«المعلم» الخارجي- الأمريكي أولاً- المتحول ديناميكياً إلى التدخل غير المباشر إلى تعديل «الطبخة» وإنتاج وتسويق وتعويم ومحاولات فرض هياكل سياسية «سورية» تلائم ذاك النمط من عمله- «ائتلاف الدوحة» مثلاً، مع مختلف التشكيلات التي أخذت صراحة عناوين طائفية، والتي باتت هي الأخرى اليوم، بنيوياً ومنطقياً، غير قابلة للاستمرار مع بدء أفول معالم التدخل غير المباشر، من خلال التوجه إلى نقل الصراع السوري إلى إحداثياته السياسية، بالدرجة الأولى، ناهيك عن حتمية فشل محاولات واشنطن تنصيب تلك الهياكل وتقديمها «حزباً قائداً وأوحدَ» جديداً باسم كل المعارضة السورية، في الوقت الذي تتجه فيه البلاد موضوعياً نحو التعددية السياسية، وهو ما تم إنجازه جزئياً وشكلياً على الأقل ببعض التعديلات التي تضمنها الدستور الجديد، دون أن يعني ذلك انتقال تلك التعديلات تلقائياً، بعد، لحيز الممارسة الفعلية اليومية، بحكم قوة العطالة داخل جهاز الدولة تحديداً.
ومن الواضح أن هذه الصيرورة- الاستمرارية أو انعدامها- هي حكم تاريخي على كل تشكيل سياسي يجري تفصيله بناءً على «طلبية خارجية»، كونه لن يكون قادراً على تمثيل المصالح الحقيقة للبلد والناس العاديين، مثلما هي حكم تاريخي على أي تشكيل سياسي من الفضاء السياسي السوري القديم- النظام بشكله السابق مع الأحزاب والهياكل والتشكيلات والأجهزة المنضوية تحته، أو الأحزاب والتيارات التي تعلن معارضته، بأدوارها السابقة والقائمة- والتي إما استنفدت شكلها وإمكانية استمرارها أو باتت غير قادرة كلياً على استيعاب المتغيرات واستحقاقاتها الجدية، والتكيف معها بالتالي، لإعادة إنتاج تحليل ورؤية وخطاب وممارسة مواكبة لمسار تطور الأحداث، إن لم تكن سبّاقة عليه، تحليلياً على الأقل.
وإذا كان الخيار هكذا مع القديم، بمعنى إما التكيف والتجدد ضمن الثوابت أو الاندثار الفعلي- بغض النظر عن تمظهر الوجود الشكلي، فإن المنطق ذاته وحسب ما ورد أعلاه ينطبق على كل «جديد» شكلي، يحمل منطقاً وعقلية ورؤية «قديمة»، أي أنه لا توجد حظوظ في استمرارية أي قديم وإن كان لبوسه جديداً..! وهذا ينسحب على كل التنويعات والتشكيلات والبنى السياسية في «النظام» و«المعارضات» المختلفة، على حد سواء.
ومع بدء التحول المرتقب في إحداثيات الصراع في سورية وعليها، بناءً على المستجدات في ميزان القوى الدولي والإقليمي، فإن هذا الوضع، وجدلية «القديم» و«الجديد»، سيخلقان توازنات جديدة سيتحول مركز الثقل فيها حكماً لمصلحة القوى الوطنية الديمقراطية السورية الجذرية والحقيقية والجدية، المعبرة عن مصالح السواد الأعظم من السوريين، بما فيها المصالح الاجتماعية، بما يخلق اصطفافات سيكون لها هي الأخرى طابع حقيقي بعيداً عن تلك الاصطفافات السابقة والقائمة، بما فيها ثنائية (موالاة) و(معارضة)، كون هذا التقسيم بحد ذاته لا يجري على أساس امتلاك أحد الطرفين لبرنامج سياسي اقتصادي اجتماعي ديمقراطي متكامل تخدّم بنوده بعضها بعضاً، وامتلاك الطرف الثاني للبرنامج النقيض القائم على مقاربات سياسية واقتصادية اجتماعية وديمقراطية مختلفة، ولكنها منسجمة ومتناغمة داخلياً، هي الأخرى.