افتتاحية قاسيون 766: الأزمة السورية وطبيعة التغييرات الدولية
يعيش العالم منذ سنوات عدة، مرحلة انتقالية ستستمر لسنوات أخرى إضافية. من بين أهم ميزات هذه المرحلة، هي درجات الاضطراب العالية التي تصيب قوى العالم القديم، والتي تظهر في شعاراتها المتخبطة والمتغيرة، وهو أمر طبيعي تماماً. فالقوى التي اعتادت خلال نصف القرن الماضي أن مقولاتها وشعاراتها وخطاباتها وأفكارها «التاريخية»، التي تقال مرة واحدة وإلى الأبد، باتت غير نافعة هذه الأيام، بل إنها مضطرة ليس لتغيير تلك المقولات فحسب، بل ولتعديلها مرة تلو أخرى مع تسارع وتيرة التغيرات الجارية. ذلك حال جزء واسع من القوى السورية والإقليمية وحتى الدولية.
يكمن في أساس هذا الاضطراب، إضافة إلى تخلف وعجز هذه القوى عن فهم وتمثل حركة التاريخ والسير معها - بحكم تعاكس مصالحها مع تلك الحركة- مجموعة من الأساسيات التي تغيب عن التحليل، وتضع هذه القوى أمام جغرافيا مجهولة، لتاريخ مليء بالمطبات.
أولاً: إنّ أي فهم جدّي لما يجري في العالم خلال المرحلة الانتقالية التي يعيشها، ينبغي أن ينطلق من دراسة شاملة للأزمة الرأسمالية العالمية ولعمقها وآجالها، في مقابل الآفاق التي من شأن ذلك أن يفتحها.
ثانياً: استناداً لتلك الأزمة، يمكن فهم تراجع الاستعمار بشكليه (القديم والجديد)، ويمكن فهم «التوازن الدولي الجديد» ليس بشكل رغبات ذاتية بل تأسيساً على الوقائع الموضوعية كما هي، دون استخفاف به وبآثاره ودون مبالغة به.
ثالثاً: منطقتنا جزء من منظومة إقليمية مرتبطة بمنظومة عالمية قديمة يجري تغييرها، ولذلك فهي في طريقها للتغيير أيضاً.
رابعاً: الأزمة السورية جزء من هذه العملية الشاملة، جاءت المصادفات التاريخية لتتكثف فيها في لحظة تاريخية واحدة كل التناقضات السابقة.
بالملموس السوري، فإنّ المتشددين الداخليين على جانبي المتراس يعانون نوعين من العماء المعرفي، مختلفين بالشكل ولكن متماثلين بالمضمون. فجانب منهم يرفض رؤية التغير الدولي الجاري، وإن أقر به فإنه يقلل من شأنه ويستخف بتأثيراته، ولا ينوبه من طريقة التفكير غير الموضوعية هذه سوى الخيبات المتلاحقة والمستمرة، فهو مضطر للتنازل عن شعاراته الواحد تلو الآخر، ومرة بعد أخرى.
أما الجانب الآخر فيبالغ- انطلاقاً من رغباته- في تقدير حجم التغير في الميزان الدولي، وفي تقدير آجال ترجماته الملموسة النهائية، ويتمنى ضمناً وعلناً أن تشتغل القوى الصاعدة ضمن أجنداته هو، ولمصلحته هو، متناسياً أنه هو نفسه أحد بقايا العالم القديم الذي تم استخدام بعض أطرافه الأكثر تخلفاً عن الركب من قبل النظام الدولي القديم لتبرير «الفوضى الخلاقة»، بل والذي ساهم في تمريرها عبر تعظيم قوى الفساد الكبير وعبر تطبيق الليبرالية الاقتصادية التي طالت بالتدمير لا الاقتصاد السوري فقط، بل والمجتمع أيضاً.
إنّ التفكير بالطرق القديمة من شأنه اليوم الخروج باستنتاجات خاطئة، من قبيل أن هنالك صفقات دولية تجري، وينبغي الاستفادة منها، للإبقاء على وضع أو نظام ما. إن ما يتغير الآن ليس ترتيب القوى بين أولى وثانية وإلخ.. بل ما يتغير هو عالم بأسره، القديم الذي لم يعد نافعاً، أو العاجز عن التكيف، يجري كنسه، ليأتي الجديد محله.
إن القوى الوطنية السورية معنية بالتقاط اللحظة التاريخية على نحو دقيق للبناء على المعطيات والإحداثيات المتشكلة بغية تقديم ما يفيد للخروج من الأزمة الجارية ومنع عوامل إعادة إنتاجها.