افتتاحية قاسيون 614: اللعب على الشطرنج السوري!
قدمت الأيام الأخيرة دلالات كبرى باتجاه إقرار غالبية أطراف الأزمة السورية بالحل السياسي وباتجاه اقترابه أكثر من أي وقت مضى، من تصريحات «الجربا» التي «وافق فيها» بإيعاز أمريكي على الحل السياسي دون شروط مسبقة، إلى الإقرار الأوروبي بضرورة هذا الحل وتراجعهم النهائي في ملف «التسليح»، إلى زيارة بندر بن سلطان إلى موسكو والتي حملت ضمناً اعترافاً بتراجع حاد في معسكر القوى المعيقة للحل، وليس انتهاءً بالتصريحات الروسية والأمريكية المتواترة حول اقتراب الحل السياسي والمترافقة مع نشاط دبلوماسي عالي الوتيرة..
وإذا كان الحل السياسي يعني في جوهره، تقديم إمكانية واقعية لإعادة فرز القوى في الداخل السوري على أساس المصالح الوطنية والاقتصادية- الاجتماعية والديمقراطية العميقة بعيداً عن ضغط العنف والدم، فإنه يعني أيضاً تظهير الأوزان الحقيقية لتيارين أساسيين يجري الجزء الأكبر من الصراع بينهما حتى الآن وراء الكواليس. وهذان التياران هما تيار وطني- اجتماعي يمثل مصلحة السواد الأعظم من السوريين ويتوزع حملة رايته داخل النظام والمعارضة والمجتمع، في مقابل تيار غير وطني (وطنياً واجتماعياً) يمثل مصلحة قلة من الناهبين ويلتقي في مصالحه مع الغرب الاستعماري ويتوزع حملة رايته أيضاً داخل النظام والمعارضة والمجتمع.. إن المعركة الوطنية الحقيقية والعميقة هي المعركة بين هذين التيارين، وإن كل من عمل على عرقلة الحل السياسي هو في التيار المعادي للشعب السوري لأنه غير قادر على الدفاع عن نفسه في معركة واضحة المعالم والاصطفافات، لكنه قادر على ذلك فقط مع التغطية القائمة للمعركة الحقيقية بمعارك جانبية ذات طابع طائفي حيناً وقومي حيناً آخر..
إن «المعركة الوطنية» التي تستدعي كما أكدنا مراراً قيام حكومة حرب، باقتصاد حرب، وصلاحيات حرب، وإجراءات حرب باتت تقتضي إعادة قراءة مفهوم الوزارات السيادية، ففي ظروف المعركة المفتوحة على الصعد المختلفة، تكتسب وزارات ومؤسسات كانت تعتبر ثانوية في ظروف السلم أهمية حاسمة في مرحلة الحرب، وبالذات تلك المواقع المعنية بأشكال الإمداد اللوجستي والتمويني الاقتصادي المختلفة للجيش وللناس، وتصبح مناقشة دورها وأدائها بأهمية مناقشة المهمات الدفاعية والسياسية السيادية.
وإن ظروف الصراع الجاري على الجبهات المختلفة تدفع بالتيار الوطني- الاجتماعي آنف الذكر إلى مزيد من التبلور ومزيد من القوة والتأثير، وذلك على الرغم من السطوة الهائلة لقوى الفساد الكبير على مفاصل عديدة في جهاز الدولة، إلا أن هذه القوى الفاسدة نفسها هي اليوم في موقع ضعف وهي في حالة تراجع وارتباك شديدين، الأمر الذي دفعها سابقاً وسيدفعها أكثر خلال الفترة المقبلة إلى محاولة خلط الأوراق لتكريس الانقسامات الوهمية الثانوية لتخرج من تحت الضرب.. وهي تحاول في هذا السياق تكرار عملية «التبييت» التي جرت، مثلاً، في آواخر العهد السوفييتي حيث تم تلميع وتقديم ممثلي مراكز فساد أساسية، ليصبح الفاسد ديمقراطياً ومدافعاً عن مصالح الشعب، وتشويه صورة قوى وشخصيات وطنية وتحميلها مسؤولية الانهيار الاقتصادي والسياسي، لتصبح محافظة ورجعية..!
إن خلق معارك ثانوية و«أعداء» وهميين للشعب السوري لتحميلهم جريرة فساد الفاسدين بغية حماية هؤلاء، لضمان استمرار نهبهم المنظم، هو إحدى الألعاب التي تعمل عليها حالياً قوى الفساد، ولكن وحده لاعب الشطرنج السيئ يتجاهل أن حركة التبييت (تغيير مواقع الملك والقلعة)، بمعنى تخبئة المتنفذين الفاسدين ووضع الوطنيين في «بوز المدفع»، في حال تمت في وقت غير مناسب فإنها لا تؤدي وظيفتها، بل عكسها، ولكن ذلك لا يغطي خانات معينة فقط، بل يطال الرقعة برمتها، وهو ما يضع على كاهل كل القوى الوطنية السورية مهمة لجمه، وهو الأمر الذي يستدعي قيام حكومة كفاءات وطنية حقيقية تتولى بالدرجة الأولى شق الطريق نحو الحل السياسي، مترافقاً مع تفكيك بنى الفساد الكبير ومكافحته.