تأثير التورّط الأوروبي في حرب أوكرانيا على ميزانية العلوم
تشهد القارة الأوروبية إعادة توجيه استراتيجية كبرى للموارد المالية، مدفوعة بالحرب المستمرة في أوكرانيا وتدهور البيئة الأمنية للقارة بفعل تبعية السلطات الأوروبية لسياسات واشنطن والناتو. بينما تشهد ميزانيات الدفاع تعزيزاً غير مسبوق، يكشف تحليل متعمق للتوقعات الاقتصادية وتقارير الإنفاق الحديثة عن تهديد واضح ومتزايد للتطوير العلمي والتكنولوجي طويل الأجل في أوروبا. إن «حصيدة السلام» التي كانت تُموّل الابتكار على نطاق واسع، يعاد توجيهها الآن بسرعة نحو الأولويات العسكرية، مما يخلق خطراً كبيراً بإزاحة البحث المدني، وتفاقم الاختلالات الاقتصادية، وتقويض قدرة الاتحاد الأوروبي التنافسية المستقبلية في التقنيات الحرجة.
إعداد: د. أسامة دليقان
الواقع المالي الجديد: تعزيز حربي ضخم
تتورط الدول الأوروبية في أكبر زيادة في الإنفاق الحربي منذ نهاية الحرب الباردة، مما يعيد تشكيل المشهد المالي للقارة بشكل جذري، مع التزامات إنفاق غير مسبوقة، حيث التزم الأعضاء الأوروبيون في حلف الناتو برفع الإنفاق الحربي الأساسي إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035، وهو ما يتجاوز تريليون يورو. ويظهر توقع أكثر قرباً أن الإنفاق يرتفع من 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي اليوم إلى نحو 2.9% بحلول عام 2030، ليصل إلى نحو 800 مليار يورو سنوياً.
دعت حزمة المفوضية الأوروبية «جاهزية 2030» الدول الأعضاء إلى تفعيل «بند الهروب الوطني» الخاص بميثاق الاستقرار والنمو. وهذا يسمح بتجاوز مسارات الإنفاق المالي المتفق عليها مؤقتاً، مع تحديد مرونة مالية إضافية بحد أقصى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الحربي بين عامي 2025 و2028.
تأتي هذه الطفرة بعد عقود من الميزانيات العسكرية المنخفضة منذ تسعينيات القرن الماضي. وبعد انخفاض الإنفاق الحربي للاتحاد الأوروبي إلى 1.1% من الناتج المحلي الإجمالي في 2014، يشهد الآن تصاعداً حادّاً.
وتتنبأ النماذج الاقتصادية الكلية التي تستخدمها المفوضية الأوروبية نفسها بأن طفرة الإنفاق الحربي هذه سيكون لها آثار اقتصادية مختلطة، مع ميزات محددة تنذر بالسوء لميزانية العلوم واسعة النطاق، مع زيادة كبيرة في الدين، وحتى عندما تتحدث عن «مكاسب» محتملة في الناتج المحلي فإنها تصفها بالمتواضعة.
تشير محاكاة نموذج QUEST التابع للمفوضية الأوروبية إلى أنّ زيادة الإنفاق الحربي بنسبة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سترفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 0.5% فقط فوق خط الأساس بحلول عام 2028، وفي الوقت نفسه تدفع نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي إلى أعلى بمقدار 2%، وهذا يخلق بيئة مالية أكثر ضيقاً لكل الإنفاق غير الحربي.
أليس الإنفاق العسكري فرصة للابتكار التكنولوجي؟
رغم أنّ التاريخ يشهد على حالات تطوير للعلم والتكنولوجيا بدأت في المجال العسكري ثم انتقلت ليستفاد منها في مجالات مدنية وسلمية. ولكن الإنفاق الأوروبي الحربي الذي تتورط فيه أوروبا حالياً مختلف تماماً. فأحد نماذج التنبؤ بالنتائج، المسمّى «متغير الإنتاجية الحرج» يسلط الضوء على أن النتيجة الاقتصادية تعتمد بشكل كبير على كيفية الإنفاق العسكري للأموال. فالسيناريو الذي تخصص فيه حصة أعلى للاستثمارات المعزِّزة للإنتاجية مثل البحث والتطوير والبنية التحتية يولد آثاراً إيجابية أكثر على الناتج المحلي الإجمالي على المدى الطويل. ولكنّ هيكل الإنفاق الحربي الحالي للاتحاد الأوروبي يميل بشكل كبير نحو تكاليف العاملين والاحتياجات التشغيلية الفورية، وليس نحو البحث والتطوير الموجَّه للمستقبل.
حتّى أنّ المحاكاة نفسها تتنبأ بأنّ الحافز الاقتصادي خافت لأنّ «التحول نحو الإنفاق الحربي يزيح الطلب الخاص» ويؤدي إلى توقعات بفرض ضرائب أعلى في المستقبل، مما يهدد بشكل مباشر الاستثمار العام في أجندات البحث المدني، من الرعاية الصحية والطاقة النظيفة إلى الفيزياء الأساسية والبنية التحتية الرقمية.
«تكلفة القرب» واستنزاف أوروبا في أوكرانيا
يجد تحليل منفصل للمفوضية الأوروبية أن دول الاتحاد الأوروبي الأقرب جغرافياً لحرب أوكرانيا عانت عقوبة اقتصادية كبيرة؛ حيث فقدت ما بين 1.4 و1.8% من نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي للدول المتاخمة. ويقيّد هذا الأداء الاقتصادي الضعيف، الناجم عن ارتفاع تكاليف الطاقة وتعطل التجارة وزيادة المخاطر، الميزانيات الوطنية التي تمول عادةً برامج العلوم التابعة للاتحاد الأوروبي بشكل مشترك.
إلى جانب الميزانيات الحربية الوطنية المباشرة، يمثل الدعم المالي الهائل لأوكرانيا سحباً ضخماً آخر للموارد الأوروبية. فمنذ شباط 2022، حشد «فريق أوروبا» (مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء) قرابة 330 مليار يورو من الدعم المالي والعسكري والإنساني المجمَّع لأوكرانيا. وعلى أساس سنوي، يصل هذا المبلغ إلى نحو 90-100 مليار يورو، أو 0.6–0.7% من الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي كل عام.
ثلاثة أرباع دعم الاتحاد الأوروبي يأتي في شكل قروض ميسرة، مما يخلق التزامات مالية طويلة الأجل، وهذه أموال غير متاحة لقروض التنمية أو الابتكار الأخرى داخل الاتحاد الأوروبي.
وتظهر بيانات من معهد كيل للاقتصاد العالمي اتجاهاً خطيراً: انخفضت تخصيصات المساعدات العسكرية الجديدة لأوكرانيا من أوروبا بشكل حاد في أواخر عام 2025. ومع تراجع الولايات المتحدة، يتزايد الضغط على العواصم الأوروبية لملء الفجوة، مما قد يتطلب تحويل المزيد من الأموال بعيداً عن البرامج المحلية ولصالح حرق هذه الأموال في لهيب الحرب.
العقوبات: قيد ذاتي على الابتكار
نظام العقوبات الشامل للاتحاد الأوروبي ضد روسيا، الذي كان يراد منه ممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي، حمل عواقب تأثير بوميرانغ على التطور الاقتصادي والتكنولوجي الأوروبي (ارتداد الأذى على من سبّبه). فقطعت العقوبات التعاون العلمي والتكنولوجي طويل الأمد مع روسيا. وأدى حظر تصدير التكنولوجيا المتطورة مثل أشباه الموصلات المتقدمة وأجهزة الكمبيوتر المتقدمة وبرمجيات محددة، إلى جانب حظر تقديم خدمات المساعدة الفنية والهندسة والاستشارات في مجال تكنولوجيا المعلومات، إلى تعطيل سلاسل التوريد المعقدة للبحث والتطوير الدولية والمشاريع المشتركة. وفي مجال الطاقة والمواد الخام، أدى حظر واردات الهيليوم الروسي والمواد الكيميائية الحرجة الأخرى، إلى جانب القيود على المعادن والمواد الخام، إلى زيادة التكاليف وخلق حالة من عدم اليقين في الإمدادات للمختبرات البحثية الأوروبية والتصنيع عالي التقنية.
مفاقمة التبعية للولايات المتحدة
سلطت العقوبات والحرب الضوء على تبعيات الاتحاد الأوروبي الخطيرة، خاصة في التكنولوجيا العسكرية التي يعتمد فيها بشكل كبير على الواردات الأمريكية. والحل المعلن هو بناء «استقلالية استراتيجية» من خلال مبادرات مثل «الصندوق الأوروبي للدفاع». ومع ذلك، فإن هذا يركز استثمار البحث والتطوير بشكل ضيق على التطبيقات الحربية، مما قد يؤدي إلى تكرار الجهود وسحب المواهب والموارد بعيداً عن القاعدة التكنولوجية المدنية التي تغذّي في النهاية المرونة الاقتصادية طويلة الأجل.
حلقة مفرغة من المخاطر
يخاطر المسار الحالي بخلق حلقة مفرغة، حيث يؤدي نقص الاستثمار في العلوم الأساسية إلى إضعاف القاعدة الصناعية والتكنولوجية المدنية، مما يقوض بدوره القاعدة التكنولوجية والصناعية الحربية التي تحاول الحكومات الأوروبية تعزيزها بشدة الآن.
كما تخلق «تكلفة القرب» الاقتصادية بالفعل تبايناً بين الدول المتاخمة للصراع وتلك الواقعة أبعد في الغرب، مما يضيف المزيد من التهديدات للوحدة الأوروبية. حيث يمكن أن يظهر «انقسام ابتكاري» موازٍ إذا تركزت عقود البحث والتطوير الحربي في عدد قليل من الدول الأعضاء الكبيرة، بينما تشهد الدول الأكثر فقراً أو تأثراً تبخر تمويل العلوم العام لديها.
يواجه الاتحاد الأوروبي نقطة تحول تاريخية، حيث تقدم التوقعات الاقتصادية وبيانات الإنفاق الجديدة المرتبطة بالتورّط في الحرب تحذيراً واضحاً: التمويل الحربي من خلال تجويع العلوم والتكنولوجيا المدنية هو استراتيجية كارثية على المدى الطويل. سيكون ذلك بمثابة رهن الأمن الاقتصادي المستقبلي لأوروبا وسيادتها التكنولوجية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1258