النشاط العلمي الأمريكي في 2025 شهد تراجعاً غير مسبوق

النشاط العلمي الأمريكي في 2025 شهد تراجعاً غير مسبوق

مع اقتراب نهاية العام 2025، سجّلت عدة تقارير أنّ هذا العام كان من أكثر الأعوام التي تتلقى فيها المشاريع والمؤسسات العلمية الأمريكية ضربات قاسية بفعل سياسات الإدارة الأمريكية الحالية، تراوحت بين تخفيضات تمويل وإغلاقات كبيرة، طالت عدة محاور رئيسية. ولم ينته العام بعد وما زالت تتوالى الأنباء عن التراجعات التي يسّجلها المجال العلمي في الولايات المتحدة، ومنها خلال الأسبوع الماضي، تخطيط ترامب لإغلاق وتفكيك «المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي» في بولدر، وهو مركز كان رائد عالمياً في أبحاث المناخ وأنظمة الأرض.

إعداد: د. أسامة دليقان

شهد عام 2025 تحولاً في سياسة التمويل الأمريكي للعلم، باتجاه تخفيضات كبيرة في التمويل الفيدرالي للمنح البحثية في الوكالات العلمية الكبرى، حيث انتقلت من تمويل سنوي تقليدي للمنح إلى دفعات مالية مسبقة كبيرة. أدى هذا إلى انخفاض حاد في عدد المشاريع الفردية التي تحصل على تمويل، حتى لو ظلت الأرقام الإجمالية للإنفاق قريبة من سابقتها. فيما يلي نستعرض أبرز المؤسسات العلمية الأمريكية التي يصيبها الضرر والتراجع.


المعاهد الوطنية للصحة (NIH)


وهي الوكالة الفيدرالية الرئيسية المسؤولة عن الأبحاث الطبية. تقلصت المنح التنافسية لها بمقدار 3500 منحة في 2025 أقل من متوسط العقد السابق. واستهدفت التخفيضات بشكل حاد برامج محددة مثل ما يسمى «برامج صحة الأقليات»؛ التي تركز على سد الفجوات الصحية للمجموعات العرقية مثل الأمريكيين من أصل أفريقي واللاتينيين بنسبة 61%. ولا يمكن قراءة ذلك دون الانتباه إلى التوجه المتزايد في العنصرية والرجعية للمؤسسة الأمريكية الرسمية. ورغم تزايد الأمراض النفسية والعقلية في ظلّ الضغوطات والأزمات التي يسبّبها التوحّش الرأسمالي في المجتمع المعاصر، لم يردع ذلك التقليص الأمريكي لبرامج الصحة العقلية بنسبة 43%، وبرامج أبحاث التمريض بنسبة 51%.


مؤسسة العلوم الوطنية (NSF)


هذه الوكالة تدعم العلوم الأساسية غير الطبية. وقد تقلصت المنح الجديدة التي تلقتها بنحو 3000 منحة أقل مما سبق، مع تأثر جميع مجالاتها. وكانت ميادين البحث الأكثر تضرراً، هي أقسام العلوم الاجتماعية والسلوكية (بنسبة سالب 46%) والعلوم البيولوجية (سالب 36%) وعلوم الأرض (سالب 35%).
ولم تقتصر الإجراءات على تقليل المنح الجديدة، بل شملت إلغاء آلاف المنح النشطة سلفاً. تشير التقديرات إلى إلغاء أكثر من 5400 منحة من المعاهد الوطنية للصحة وقرابة 2000 منحة من مؤسسة العلوم الوطنية. وتقلصت بشكل واضح المنح لأبحاث علاج الإدمان، ودراسات عدالة المناخ.


تخفيضات كبيرة بالقوى العاملة العلمية


تعرضت الوكالات الفيدرالية لحملة تقليص للكوادر العلمية، مما أدى إلى فقدان الخبرة المؤسسية وتعطيل المشاريع. فالمعاهد الوطنية للصحة فقدت نحو 3000 موظف، أي ما يقرب من 14% من قوتها العاملة. ومؤسسة العلوم الوطنية (NSF) خسرت ثلث موظفيها تقريباً. الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) فقدت نحو 2000 من أصل 12000 موظف، وتعرّضت برامج أبحاث المناخ فيها لتهديدات بقطع تمويل أشد.


إغلاق مركز أبحاث الغلاف الجوي وعواقبه


أثارت خطط إدارة ترامب لإغلاق وتفكيك المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي في بولدر - وهو مركز رائد عالمياً في أبحاث المناخ وأنظمة الأرض - استنكاراً شديداً من المسؤولين المنتخبين في ولاية كولورادو، حيث اتهم اثنان منهم الرئيس بالانتقام من الولاية.
وأكد روس فوغت، مدير مكتب الإدارة والميزانية بالبيت الأبيض، في بيان نشره على وسائل التواصل الاجتماعي مساء الثلاثاء، في محاولة لتبرير قرار ترامب: «هذا المرفق يُعدّ من أكبر مصادر التخويف المناخي في البلاد» بحسب وصفه. وأضاف: «يجري حالياً مراجعة شاملة، وسيتم نقل أي أنشطة حيوية، مثل أبحاث الطقس، إلى جهة أو موقع آخر». وقال فوغت إن المؤسسة الوطنية للعلوم، وهي وكالة فيدرالية، «ستفكك» المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي (NCAR). وأشار مسؤولون في البيت الأبيض، وفقاً لصحيفة يو إس إيه توداي، إلى «التوجه التقدمي» للاتحاد غير الربحي الذي يُدير المركز، ووصفوا العديد من مبادراته بأنها مُهدرة وغير ضرورية.
وبينما يُجري المعهد أبحاثاً حول تغير المناخ، فإن مهمته أوسع بكثير، وتشمل جميع جوانب تفاعل الغلاف الجوي للأرض وأنظمة الطقس، بما في ذلك الزلازل والفيضانات والجفاف والعواصف المغناطيسية الأرضية في الفضاء وحرائق الغابات والرياح والعواصف وغيرها.
ولذلك يأتي قرار توجيه ضربة لهذا المركز أمراً غريباً في بلد يشهد أزمات بيئية ومناخية وأعاصير، لم تخل خلال السنوات الماضية من فضائح وفساد وإهمال في إدارتها من حيث جهود التنبؤ أو الإغاثة ما بعد الكوارث الطبيعية.
وحذّر العلماء من أن تفكيك المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي (NCAR) سيُعيق قدرة البلاد على فهم الظواهر الجوية المتطرفة، كالفيضانات والأعاصير والعواصف الثلجية والاستعداد لها، بينما قال مسؤولون محليون إن إغلاقه قد يُلحق الضرر باقتصاد مدينة بولدر ويُفقد مئات الوظائف.
وكتبت كاثرين هايهو، عالمة المناخ بجامعة تكساس التقنية، على منصة التواصل الاجتماعي X: «إن تفكيك المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي أشبه بضرب حجر الزاوية الذي يقوم عليه فهمنا العلمي لكوكب الأرض بمطرقة ثقيلة».
وفي تجلّ للتأثيرات الضارة للصراع السياسي والإيديولوجي على الخدمات والأبحاث العلمية، قال بيانٌ صادر عن البيت الأبيض لصحيفة دنفر بوست أن المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي كان بمثابة «المعقل البحثي الرئيسي لأفكار اليسار المتطرف حول المناخ»، وأشار إلى زيارة قامت بها النائبة نانسي بيلوسي، الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا ورئيسة مجلس النواب آنذاك، إلى المركز عام 2022.
في أيلول، وصف الرئيس ترامب، تغير المناخ بأنه «أكبر خدعة» خلال خطاب ألقاه في الأمم المتحدة. كذلك أوقف ترامب تطوير الطاقة المتجددة، وخلال شهر كانون الأول الجاري غيّر مسؤولون فيدراليون اسم المختبر الوطني للطاقة المتجددة في غولدن إلى المختبر الوطني لجبال روكي، حيث صرّح مسؤول في وزارة الطاقة قائلاً: «لم نعد ننتقي مصادر الطاقة ونختارها». وفي الصيف الماضي، ألغى قانون الإنفاق والضرائب الضخم الذي أقره الجمهوريون الإعفاءات الضريبية لمشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
وسرحت إدارة ترامب مئات العلماء الذين كانوا يعملون على تقرير مُكلّف من الكونغرس يُستخدم للاستعداد للظواهر الجوية المتطرفة، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز.
يُدار مختبر بولدر من قِبل مؤسسة جامعة أبحاث الغلاف الجوي نيابةً عن المؤسسة الوطنية للعلوم. وقد أُنشئ في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، عندما ازداد الاهتمام بالأرصاد الجوية، ورصد الشمس، وعلوم الغلاف الجوي. تضاعفت ميزانية المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي (NCAR) أكثر من مرتين بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مدفوعةً بزيادة تركيز الحكومة الفيدرالية على أبحاث تغير المناخ.
ويوفر المركز البيانات والنماذج التي تعتمد عليها مؤسسات وجامعات أخرى في التنبؤات والأبحاث. كما تعتمد قطاعات مثل الطيران والزراعة والشحن على معلوماته لاتخاذ القرارات. يقول دانيال سوين، عالم المناخ في معهد كاليفورنيا لموارد المياه التابع لقسم الزراعة والموارد الطبيعية بجامعة كاليفورنيا: «لطالما كان المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي (NCAR) على مدى عقود المعهد الرائد عالمياً في مجال الأرصاد الجوية والمناخ والمخاطر الطبيعية، وليس في الولايات المتحدة فقط».
وتشير سجلات الملكية إلى أن مقر المركز في بولدر مملوك للحكومة الأمريكية، وأن أكثر من نصف ميزانيته في عام 2025 جاء من المؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، وفقاً لموقع مجلة ساينس. وقد أفادت المجلة في تشرين الأول أن المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي قد سرح بالفعل 29 موظفاً وألغى 21 وظيفة شاغرة أخرى تحت ضغوط من الحكومة الفيدرالية. وأعلنت المؤسسة سابقاً عن خطط لخفض ميزانية المركز الوطني لأبحاث الغلاف الجوي بنسبة 40%، مما ينذر باحتمالية إجراء «تخفيضات واسعة النطاق» في المختبر في بولدر.
وقال حاكم ولاية كولورادو، جاريد بوليس، في بيان له، إن الولاية لم تتلقَّ بعد أي معلومات حول نية الرئيس دونالد ترامب سحب التمويل عن المختبر. وأضاف: «إذا صحّ ذلك، فإن السلامة العامة في خطر، والعلوم في خطر».


خطط لقطع تمويل جذرية لبرامج كاملة


ظهرت مقترحات ميزانية لقطع التمويل عن وكالات ومهام علمية كاملة، لا سيّما تلك المتعلقة بعلوم المناخ والأرض. مثلاً، اقترحت الإدارة الأمريكية تخفيضاً بنسبة 46% في ميزانية علوم الأرض لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا لعام 2026، مما يهدد أكثر من عشرة مهمات للأقمار الصناعية لمراقبة الأرض بالإلغاء. واقترحت أيضاً إلغاء مكتب أبحاث المناخ بالكامل، وهو مركز رئيسي لفهم تغير المناخ على المستوى الأمريكي الوطني.
وتسبب إغلاق الحكومة الفيدرالية الأمريكية لفترة استمرت 43 يوماً في تشرين الأول وتشرين الثاني 2025 في توقف شبه كامل للأنشطة العلمية الفيدرالية، مثل مراجعة المنح وإصدار التمويل. وطالت التأثيرات جيل العلماء المستقبلي أيضاً، حيث تقلص برنامج زمالة أبحاث الخريجين المرموق في مؤسسة العلوم الوطنية بحيث أعطى منح زمالة أقل بمقدار 536 منحة في 2025، مقارنة مع الوسطي، مع تخفيضات بأكثر من النصف في مجالي العلوم الحياتية وعلم النفس.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1257