العالم البيئي الجدلي: ريتشارد ليفينز وعلم الاستقلاب للطبيعة والبشر
جون بيلامي فوستر وبريت كلارك جون بيلامي فوستر وبريت كلارك

العالم البيئي الجدلي: ريتشارد ليفينز وعلم الاستقلاب للطبيعة والبشر

كان ريتشارد ليفينز (1930–2016) عالِم بيئة وبيولوجياً تطورياً وماركسياً جدلياً، اشتهر بمساهماته الثورية في فهم التفاعلات المعقدة بين الطبيعة والمجتمع. اعتمد ليفينز على المادية الديالكتيكية لماركس وإنجلز لتحليل الأزمات البيئية والاجتماعية، معتبراً أن الرأسمالية هي السبب الجذري للانفصال بين البشر والطبيعة.

يُلخص هذا النص أفكاره الرئيسية في عدة محاور:

الديالكتيك المادي وعلم البيئة

تحليل الحلقة (Loop Analysis) والأنظمة البيئية: طوّر ليفينز تقنية «تحليل الحلقة» الرياضية لدراسة التفاعلات في النظم البيئية، مثل العلاقة بين المفترس والفريسة، والتي تُظهر كيف تؤثر التغيرات الكمية على ديناميكيات النظام ككل. وكيف تؤثر التغذية الراجعة على استقرار الأنظمة البيئية. ساعد هذا النهج في فهم الديناميكيات المعقدة للأنظمة البيئية وتجاوز النماذج الاختزالية التقليدية.

التأثير الماركسي: استلهم ليفينز من ديالكتيك ماركس الذي حلل الرأسمالية كـ«نظام» اقتصادي وبيئي. رأى أن التناقضات البيئية (كاستنزاف الموارد) مرتبطة بالتناقضات الاقتصادية، مما يستلزم تغييراً اجتماعياً جذرياً.

النقد الفلسفي: انتقد الماركسية الغربية لرفضها «ديالكتيك الطبيعة»، مؤكداً أن المادية الجدلية ضرورية لفهم التفاعلات المعقدة بين الكائنات وبيئاتها. فدافع عن إرث إنجلز في الربط بين العلم والجدلية، مشيراً إلى أن إهمال البعد البيئي في الماركسية يقود إلى فهم قاصر للأزمات الرأسمالية. وأن فصل المادية التاريخية عن ديالكتيك الطبيعة يُضعف القدرة على تحليل التفاعل بين العمليات الاجتماعية والبيئية.

الجدلية والعلم

جادل ليفينز بأن الجدلية المادية ليست نظرية جامدة، بل منهجاً لفهم التعقيد والتناقضات في النظم الحية. انتقد التفسيرات الميكانيكية لنظرية النظم، مؤكداً على أهمية التاريخ والتغيرات الطارئة (مثل تأثير العتبات الحرجة في التحولات البيئية). بالتعاون مع ريتشارد لوونتين، قدم مفهوم «الكائن الحي كفاعل في التطور»، حيث يعدل الكائن بيئته ولا يخضع لها سلباً، مما يحطم الثنائية التقليدية بين «الطبيعة» و«الثقافة».

التطور والتفاعل بين الجين والكائن والبيئة

الحلزون الثلاثي: بالتعاون مع ريتشارد لوونتين، قدم ليفينز مفهوماً ديالكتيكياً للتطور، يركز على التفاعل الديناميكي بين الجينات والكائنات الحية والبيئة، حيث يلعب الكائن الحي دوراً فاعلاً في تشكيل بيئته، وليس مجرد متلقٍ سلبي.

نقد الاختزالية: عارض النظرة الاختزالية في علم الأحياء التي تعزل الجينات عن السياق البيئي، مؤكداً أن التكيف عملية نشطة تشمل بناء الكائنات لبيئاتها.

الصحة العامة والرأسمالية كمرض

في مقاله «هل الرأسمالية مرض؟»، ربط ليفينز بين تفشي الأوبئة (مثل الملاريا، كوفيد-19) والتحولات البيئية الناتجة عن الرأسمالية: إزالة الغابات، الزراعة الأحادية، التمدن العشوائي. أوضح كيف تخلق الرأسمالية «متلازمة الضائقة البيئية-الاجتماعية» عبر تفاقم التفاوتات وتدهور الخدمات الصحية. انتقد النموذج الطبي الاختزالي، داعياً إلى نهج بيئي-اجتماعي يعالج الأسباب الجذرية للأمراض، مثل الفقر وتلوث البيئة. وحلل ليفينز كيف تؤدي الرأسمالية إلى تفشي الأمراض عبر:

التعديات البيئية: كإزالة الغابات وتربية الماشية المكثفة، مما يزيد اتصال البشر بالحيوانات الناقلة للأمراض.

المقاومة الدوائية: الإفراط في استخدام المضادات الحيوية يخلق «جراثيم خارقة».

التفاوت الصحي: تدهور الظروف المعيشية للطبقات الفقيرة يزيد من انتشار الأمراض.

نقد التحول الوبائي: رفض فكرة أن التقدم التكنولوجي كافٍ للقضاء على الأمراض، مشيراً إلى أن الحلول تتطلب تغييراً جذرياً في النظام الاجتماعي.

نقد الرأسمالية والأزمة البيئية

الصدع الاستقلابي (Metabolic Rift):
استند ليفينز إلى تحليل ماركس للرأسمالية كنظام يفصل بين الإنسان والطبيعة عبر استغلال الموارد، مما يؤدي إلى أزمات بيئية وصحية. رأى أن الرأسمالية تُنتج «متلازمة الضائقة البيئية-الاجتماعية»، التي تتجلى في تغير المناخ، وتفشي الأوبئة، وتدهور الصحة العامة.

الأمراض والتفاوت الاجتماعي:
حلل كيف تؤدي الرأسمالية إلى تفشي أمراض جديدة (مثل كوفيد-19) عبر:

التعدي على النظام البيئي (إزالة الغابات، الزراعة الصناعية).

المقاومة للمضادات الحيوية بسبب الإفراط في استخدامها بالقطاع الزراعي.

التفاوت الصحي الناتج عن الفقر وغياب الرعاية الصحية الشاملة.

الصحة كصراع طبقي:
أكد أن تحسين الصحة العامة يتطلب مواجهة النظام الرأسمالي، الذي يضع الربح أولويةً على حساب الإنسان والبيئة، ودعا إلى رعاية صحية شاملة تركز على الوقاية والعدالة البيئية.

الزراعة البيئية والتخطيط الاشتراكي

كعالم ومزارع سابق في بورتوريكو، دعا ليفينز إلى زراعة بيئية تعتمد على التنوع الحيوي والمعرفة المحلية، معارضاً الزراعة الأحادية القائمة على الكيماويات. أشاد بالتجربة الكوبية كنموذج للزراعة المستدامة بعد الثورة، حيث:

التنوع الزراعي: حلت الزراعة المتنوعة محل الزراعة الأحادية لقصب السكر.

الإدارة البيئية: أُدخلت ممارسات مثل التسميد العضوي وتربية ديدان الأرض لتحسين خصوبة التربة.

التخطيط المجتمعي: دمج المعرفة العلمية مع الخبرات المحلية لتحقيق الاكتفاء الغذائي.

نقد الزراعة الرأسمالية: هاجم ليفينز الزراعة الصناعية لاعتمادها على الكيماويات وتدميرها للتنوع الحيوي.

التنوع الحيوي (تناوب المحاصيل، المكافحة الطبيعية للآفات)

المعرفة المحلية (دمج الخبرة الشعبية مع العلم الحديث).

التخطيط الجماعي لتقليل استخدام الكيماويات وتعزيز الإنتاج العضوي.

العلم في خدمة المجتمع:
أشاد بتحويل كوبا العلوم إلى ملكية عامة تهدف إلى خدمة الصالح العام، مثل تطوير زراعة حضرية عضوية وتحسين إدارة الموارد المائية، مما قلل الاعتماد على الاستيراد وعزز الأمن الغذائي.

الاشتراكية والاستدامة:
رأى ليفينز أن الاشتراكية ضرورية لتحقيق «المسار البيئي» الذي يجمع بين العدالة الاجتماعية وحماية البيئة، معتبراً أن التخطيط الديمقراطي القائم على المشاركة الجماعية هو السبيل إلى إصلاح العلاقة الاستقلابية بين البشر والطبيعة.

الاشتراكية البيئية كحل

البديل الجذري: دعا ليفينز إلى نظام اشتراكي يخطط لعملية الاستقلاب بين المجتمع والطبيعة، مع التركيز على:

العدالة البيئية: تقليل التفاوتات في الوصول إلى الموارد.

الاستدامة: اعتماد تقنيات مكثفة المعرفة بدلاً من الاستغلال المفرط.

المشاركة الشعبية: إشراك المجتمعات في صنع القرار البيئي.

الربط بين النضالات: رأى أن تحرير البشر من الاستغلال الطبقي مرتبط بتحرير الطبيعة من الهيمنة الرأسمالية.
إرث ليفينز الفكري

علم البيئة الجدلي:
قدم إطاراً لفهم البيئة كنظام ديناميكي مليء بالتناقضات، حيث التفاعلات بين المستويات المختلفة (جزيئية، عضوية، اجتماعية) تُنتج تغيرات نوعية وكَمية.

النضال من أجل التغيير:
دعا إلى دمج النضال البيئي مع النضال الطبقي، معتبراً أن تحرير البشرية من الاستغلال الرأسمالي شرطٌ أساسي لإنقاذ الكوكب.

العلم الملتزم: دمج ليفينز بين النشاط السياسي والعلمي، معتبراً أن العلم يجب أن يخدم الصالح العام لا الربح. رفض فصل العلم عن السياسة، وشجع العلماء على الانخراط في القضايا الاجتماعية وتبني أبحاثٍ تخدم الجماهير بدلاً من النخب.

الرؤية الشمولية: شدد على ضرورة فهم العالم ككل متشابك، حيث تؤثر التغيرات في جزء ما على النظام بأكمله.

التحديات الحالية: تُعد أفكاره مرجعية في مواجهة أزمات مثل التغير المناخي والأوبئة، مؤكدة أن الحلول التقنية الجزئية غير كافية دون تغيير جذري في النظام الاقتصادي.

الإرث والاستمرارية

ترك ليفينز إرثاً في الحركات البيئية والاشتراكية، حيث تُطبق أفكاره في نضالات العدالة المناخية والزراعة المستدامة. كتاباته مثل «الأحياء الجدلية» (مع لوونتين) و«الإنسانية والطبيعة» (مع يورجو هايلا) تُعد مراجع أساسية في البيئة السياسية. أكد أن النضال البيئي جزء لا يتجزأ من الصراع الطبقي، وأن مستقبل البشرية يعتمد على بناء نظام اجتماعي يعيد توازن العلاقة مع الأرض.

الخاتمة

قدم ريتشارد ليفينز إطاراً فكرياً يجمع بين النقد الاجتماعي والتحليل البيئي، مظهراً أن إنقاذ الكوكب يتطلب تحولاً اشتراكياً يعيد توحيد البشر مع الطبيعة. تُبقى أفكاره إرثاً حيوياً في عصر الأزمات البيئية المتصاعدة. فلم يكن ريتشارد ليفينز عالِماً بارعاً فحسب، بل مُنظِّراً ثورياً رأى في الجدلية المادية أداةً لفك تشابك الأزمات المعاصرة وفي العلم أداةً للتغيير الاجتماعي. عبر عمله، بيّن أن حل الأزمة البيئية يتطلب تحولاً جذرياً نحو نظام اجتماعي-اقتصادي عادل، حيث تُدار الموارد بطريقة مستدامة تُحترم فيها حدود الطبيعة وتُلبى فيها احتياجات البشر جميعاً. وعبر دمجه الفريد بين الماركسية والبيولوجيا والرياضيات، قدم إطاراً لفهم أزمات العصر من تغيّر مناخي إلى تفشي الأوبئة، مؤكداً أن الحلول ليست تقنية فحسب، بل سياسية بطبيعتها، تتطلب تحطيم منطق الربح الرأسمالي وإقامة مجتمع قائم على التعاون والاستدامة.

عن موقع: monthlyreview.org
إعداد قاسيون بتصرف

معلومات إضافية

العدد رقم:
1217