كفاءاتنا الطبّية المُغتَرِبة: كيف نستعيدها على المدى القصير والطويل؟

كفاءاتنا الطبّية المُغتَرِبة: كيف نستعيدها على المدى القصير والطويل؟

بحسب تقرير حديث لإحدى الصحف الألمانية، يعمل في ألمانيا أكثر من 6000 طبيب سوري، مع تقديرات بأن «إجمالي الأطباء الذين لديهم تاريخ هجرة سوري ويعملون في ألمانيا يقارب 10 آلاف طبيب». وبعد سقوط السلطة السابقة، تعود إلى الواجهة الحاجة الماسّة لإجراءات ملموسة وخطط جدّية لإعادة الكفاءات السورية في المجالات العلمية والمهنية والتخصصية كافةً، ليس فقط لمرحلة إعادة الإعمار التي قد لا تبدأ بالسرعة المأمولة، بل حتى لما هو أقلّ وأقصر مدى حالياً: الإغاثة والإسعاف من التدهور المستمر في الخدمات والمؤسسات، والذي يتطلب تغييراً سريعاً للسياسات الخاطئة، حتى الآن، ولا سيّما الفصل التعسفي والخصخصة وتدنّي الأجور الحقيقية، فضلاً عن حالات أمنية مقلقة للعاملين وتعطي رسائل خاطئة للراغبين بالعودة، مثل الاعتداءات المتكررة على الكوادر الطبية في المشافي.

إنّ أيّ كفاءة سوريّة تعود من وضع أفضل معيشياً خارج سورية إلى العمل والاستقرار في سورية، أو تتمسك بالبقاء في الوطن، إنما تقدّم تضحيةً شخصية، ولا شكّ أنّ البلاد وشعبها يستحقون هذه التضحية. ولكن ليس هناك أيّ شكّ أو أوهام بأنّه يمكن تحقيق كلّ المأمول قبل سنوات من بناء وتطوير سوريّة تليق بالسوريين. ولكن حتى يتم ذلك، هناك مسؤولية كبيرة تقع على السلطة وكلّ صانع قرار في البلاد، وعلى جهود وتكاتف الشعب وتوحّده في الانتقال الآمن والإدارة الصحيحة للبلد، وصولاً لتأمين الظروف الضرورية لتشجيع الكفاءات على العودة الدائمة والمساهمة في نهوض سورية من تحت الأنقاض والرّماد.
جرى التطرق منذ مدة إلى استقبال سورية لوفد من الأطباء السعوديين الذين جاؤوا في زيارة قدّموا خلالها مساعدات إنسانية، كإجراء عدد من العمليات الجراحية وتقديم بعض الخدمات الطبية للسوريين في مشافٍ سورية. ورغم أنّ أيّ جهود ومساعدات إنسانية مفيدة ومرحَّبٌ بها، ولكن الحادثة بحد ذاتها وخصوصاً لكونها تتعلّق باستجلاب أطباء غير سوريين، رغم الشهرة العالية للأطباء السوريين وكفاءتهم عبر العالم، طرحت عدّة تساؤلات منطقية، ولا سيّما أنها تزامنت مع أنباء تداولتها مجموعات للأطباء السوريين في الخارج تتحدث عن أنّ السعودية نفسها ليست خارج مجموعة البلدان العربية التي بدأت بفصل أعداد من الأطباء السوريين العاملين لديها من مشافيها!
وبكل الأحوال يمكن أن نذكر من بين الأفكار التي تتولّد في هذا السياق أنه: حتى لو كانت عودة أعداد كبيرة من الكوادر الصحية السورية المغتربة للاستقرار الدائم في البلاد تواجه صعوبات حالياً، فلماذا لا يتم التفكير على الأقل على المدى القصير بتنظيم حملات لتشكيل واستقبال فرق طبية سورية من كفاءاتنا الصحية المغتربة ممن تسمح أوضاعهم في البلاد الأجنبية أو العربية التي هم مستقرون ويعلمون فيها الآن، بزيارة سورية لفترات وتقديم بعض خدماتهم وخبرتهم سواء للمرضى في المشافي العامة، أو حتى لتدريب الكوادر الطبية المحلية. مع توفير ما يلزم من ظروف آمنة وحماية لهم خلال فترة زيارتهم لبلدهم سورية (فالوفود الأجنبية ليست أعزّ وأغلى من أبناء بلدنا). ويمكن للتشجيع أن تخصّص الحكومة السورية جزءاً من الميزانية أو من المساعدات المالية التي يجري الحديث عنها، أو إطلاق حملة تبرّعات عامة تشارك بها رؤوس أموال وطنية محلية ومغتربة، لتمويل هذه الزيارات للكوادر الصحية السورية (لتغطية جزئية أو كلّية لتكاليف السفر مثلاً، أو لتمويل استجلاب ما يلزم من مواد دوائية أو طبية معهم). وإذا نجحت التجربة، يمكن تعميمها على كوادر وكفاءات بقطاعات أخرى غير الصحّة.

كفاءاتنا المُغترِبة بين الجذب والطرد

الجدير بالذكر أنّه بعد سقوط السلطة البائدة، بدأت قضية وجود الأطباء السوريين في ألمانيا وعدد من البلاد بما في ذلك في بلاد عربية، تشهد شدّاً وجذباً داخل تلك البلاد يدور حول قلقها المتزايد من إمكانية خسارتها لجزء من هذه الكوادر، وهذا ما برز خصوصاً في ألمانيا، لأسباب لا تتعلّق فقط بسورية، بل بوضع ألمانيا وأوروبا عموماً كقوة اقتصادية متراجعة عمّا كانت عليه سابقاً، وبالتالي لم تعد تستطيع توفير المستوى نفسه من الرفاه، وأُولى الضحايا ستكون العمالة المهاجرة، ولو أنّ ذوي الكفاءات العالية قد يكونون في وضع أفضل نسبياً لكن التخلّي عن جزء منهم وارد. وهذا القلق لدى الألمان حقيقي ومتزايد وقد عبّر عنه عدد من مسؤوليهم.
في هذا السياق كتبت الصحيفة الألمانية Taz نهاية كانون الثاني الماضي، بأنه «مع سقوط نظام الأسد، تشعر المستشفيات الألمانية بقلق متزايد من إمكانية عودة الأطباء السوريين». ونقلت عن الداخلية الألمانية، أنّ السوريين المقيمين في ألمانيا «في نهاية تشرين الأول 2024 بلغوا نحو 975 ألفاً، عدد كبير منهم لاجئون نتيجة الحرب الأهلية في سورية. وفي المتوسط، يعيش الأشخاص الذين هاجروا من سورية في ألمانيا منذ ثماني سنوات».
وأجرت الصحيفة مقابلات مع عدة أطباء سوريين، منهم مثلاً طبيبٌ مختص بأمراض القلب في مستشفى جامعة روبين براندنبورغ، يعمل في العيادة في نيوروبين منذ 4 سنوات ويعيش في ألمانيا منذ 13 عاماً. ولكنه يزور سورية بشكل دوري، حيث يجتمع كل عامّ مع أهله في دمشق. ويقول إنه في البداية أراد البقاء في ألمانيا لعامين أو ثلاثة فقط لمزيد من التدريب ريثما تنتهي الحرب في سورية، ثم استغرق الأمر 13 عاماً. وصرّح الطبيب السوري نفسه للصحيفة الألمانية بأنه واثق من مدى حاجة المشافي الألمانية للأطباء والكوادر الصحية السورية: «عندما يرحل السوريون، يمكنهم إغلاق أعمالهم هنا».
وفي السياق نفسه قالت الصحيفة الألمانية «يعمل نحو 80 ألف سوري في المهن التي تعاني من نقص العمالة... فيساعدون على معالجة النقص في العمالة الماهرة بألمانيا». وتابعت: «السوريون مطلوبون خصوصاً في قطاع الرعاية الصحية. وبحسب دراسة أجراها المعهد الاقتصادي الألماني في كانون الأول الماضي، يعمل 2157 متخصّصاً سوريّاً في قطاع الصحة والتمريض، حيث لا تزال سبعٌ من أصل عشر وظائف شاغرة. وبحسب اتحاد المستشفيات، هناك نقص حالياً في الوظائف الطبية بدوام كامل بما لا يقل عن 5000 وظيفة في جميع أنحاء ألمانيا». كما نقلت الصحيفة عن جيرالد غاس، رئيس جمعية المستشفيات الألمانية قوله: «نظرًا لنقص العمالة الماهرة، فمن السذاجة وعدم المسؤولية تشجيع العمالة الماهرة المطلوبة بشكل عاجل على العودة بمكافآت ورحلات طيران مجانية»، وذلك في إشارة إلى دعوة السياسي في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (ينس شبان) إلى منحة قدرها 1000 يورو لكل سوري يترك ألمانيا بشكل دائم ويعود إلى وطنه. وبعد شهر واحد، أعلنت وزيرة الداخلية نانسي فاسر أنه سيتم إعادة النظر في وضع الحماية للاجئين السوريين وتم تعليق جميع إجراءات اللجوء في الوقت الراهن، وأنه يجب على جميع الذين لا يعملون أو يتدربون العودة.
ويقول غاس أيضاً: «إذا غادر العديد من الأطباء السوريين ألمانيا، ستكون النتيجة قوائم انتظار أطول، ومزيداً من العمليات الجراحية المؤجَّلة والعمل الإضافي».
وأشارت الصحيفة إلى أنه «منذ سقوط الأسد، تشعر العديد من المستشفيات الألمانيّة بالقلق من فقدان موظَّفيها. وتخشى العيادات حدوث اختناقات في الإمدادات، وخاصة في المناطق الريفية وفي شرقي ألمانيا».
وعودةً إلى مثال طبيب القلب السوري الذي التقته الصحيفة الألمانية فإنها سألته: «هل تفكر بالعودة منذ سقوط نظام الأسد»؟ فأجاب: «لا، لقد كبرت ولا أستطيع تغيير حياتي مرة أخرى. وأطفالي لا يعرفون إلّا ألمانيا»، وأضاف: «الاقتصاد في سورية منهار، ولا أحد يعرف كيف ستتطور البلاد».
وهكذا، فمع العوامل التي تجعل ألمانيا وغيرها «تجذب» الكفاءات، هناك عوامل «طرد» بالمقابل، والتي يفترض أن تستفيد منها سورية لتحويلها إلى عوامل جذب وطني لهذه الكفاءات، لأنّها ببساطة يمكن أن تبقى في سجلّ الخسارة الوطنية إذا انتقلت إلى بلدان أخرى.
وفي مثالٍ رمزيّ عن حجم هجرة/سرقة العقول، التي يدركها أصحاب الكفاءات أنفسهم، ذكرت الصحيفة الألمانية ما قاله لها أحد أطباء الجراحة السوريين، والذي وصفته بأنه «ما يزال نشيطاً وبحالة مزاجية جيدة حتى بعد إجراء ست عمليات جراحية في ذلك اليوم»، حيث تساءل مبتسماً: «كم يكلف ألمانيا أن تنتج طبيباً؟» وأجاب بنفسه، إنه مع كل تكاليف التدريب والتعليم، ستبلغ الكلفة نحو نصف مليون يورو. بالمقابل قال للصحيفة الألمانية: «كأطباء سوريين جئناكم مجاناً كمتخصصين، بشكل كامل، وجاهزين».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1214