السوق الحرّ والخصخصة: وصفة لإجهاض ولادة الدولة المستقلّة المُوحَّدة والعادلة
«تهدف الأجندة النيوليبرالية العالمية (اقتصاد السوق الحر والخصخصة، وكلّ ما يخدمه من سياسات) إلى تفكيك الدولة الوطنية باستثناء وظائفها البوليسيّة، أيْ باستثناء الإبقاء على أجهزة الدولة التي تقمع شعبها لصالح قلّتها الناهبة ولصالح رأس المال المالي العالَمي. وهذا هو السبب في أنّ الدول التي تبنّت اقتصاد السوق الحرّ أصبحت هشّة بشكل متزايد مع فقدانها للشرعية في نظر شعوبها». – كانت هذه إحدى النتائج الهامّة التي ذكرها (بالحَرف تقريباً) الباحث الهندي بْرابير بوركاياسثا في كتابه «المعرفة كَمَشاع، نحو علم وتكنولوجيا شاملَين» الصادر عام 2024.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
يقول الكاتب إنّه «إذا كان من المقرَّر تفكيك الدول الوطنية باستثناء وظيفتها البوليسيّة، فلن تتمكّن من تأمين شرعيةٍ لها دون إعادة تعريف نفسها. فالدولة التي تقمع شعبَها لتعزيز الحكم العالمي للشركات لا بدَّ أن تعزِّز هُويّات أخرى؛ وهنا تدخل الأجندة العِرقية والدينية حيّز التنفيذ. فمن خلال إعادة تعريف الأمّة من حيث الدين أو العِرق، يتم حرف الأنظار بعيداً عن عملية إعادة الاستعمار». ويربط الكاتب عملية تفتيت الدول الوطنية هذه بوصفها حاجة للنظام الإمبريالي العالَمي، لأنّ من الصعب على هذا الأخير تبرير هيمنة الاحتكارات الغربية على العالَم، بما في ذلك على الشعوب الغربية نفسها، دون ترويج وتعزيز الأسطورة التي تضفي الشرعية على «الغرب» بأنه «العقلاني المتحضِّر» في مقابل قوى الظلام الاستبدادية التي يصوّرها وكأنّها لا تنبع إلّا من بقية العالَم «غير الغربي».
لقد نهب الغزاة الاستعماريّون واستعبدوا وذبحوا شعوب القارَّتَين الأمريكيّتَين، وأفريقيا وآسيا، على نطاق واسع، ثم بنوا في النهاية نظاماً يعمل باستمرار على خلق الثروة في المراكز الكبرى الغربية على حساب المستعمرات التي يتمّ نهبُها إفقارُها، علماً أنّ بلاد الشرق التي جرى استعمارُها ليست فقيرة أو كسولة كما تزعم الأسطورة الاستعمارية الغربية، بدليل أنّ الصين والهند لوحدهما كانتا تنتجان حتى القرن الثامن عشر الميلادي نحو 50% من الناتج المحلّي الإجمالي العالَمي. وبالمقابل وبحسب بحث أجرته الخبيرة الاقتصادية أوتسا باتنايك عام 2018، نهبت بريطانيا الاستعمارية ما قيمته 44 تريليون دولار من الهند خلال فترة احتلالها لهذا البلد.
يوضح لنا هذا النهب الهائل أحد أهم الأسباب التي جعلت الإمبريالية تتمكن من تطوير القوى الإنتاجية في بلدانها وتسخير العلم والتكنولوجيا بينما استنزفت المستعمَرات، ناقلةً المواد الخام من المستعمرات، ومدمّرةً الصناعات التحويلية فيها، ومحوِّلةً إيّاها إلى أسواق أسيرة لبيع السلع المصنَّعة في البلدان الاستعمارية، حتى أنّ أحد شعارات بريطانيا الحريصة على عدم السماح بنهوض أيّ صناعة في مستعمراتها كان يقول «ولا حتى مسمار واحد من المستعمرات».
أهمّية الاقتصاد الوطني المستقلّ
رأى الوطنيون الأوائل كيف أنّ الحُكم الاستعماري استنزف البلدان المستعمَرة بينما أغنى المستعمرين. وكان التحدي النهائي أمام الوطنيين هو كيفية جعل الدولة المتحرِّرة حديثاً من الاستعمار التقليدي تعمل على تحقيق رؤيةٍ تجسّد مهمّتين متكاملتين: دولة لكلّ أبناء شعبها، ودولة تنمّي جميع مواردها بما فيها الموارد البشرية.
ينوّه الكاتب كيف تجسّد ذلك في استقلال الهند، وأهمّية تثبيت هذه المبادئ للوحدة الوطنية والمساواة بين جميع المواطنين في دستور البلد: «أصبحت الهند جمهورية في 26 كانون الثاني 1950، عندما دخل دستورها الجديد حيّز التنفيذ... الدستور هو ما يضمن لجميع قطاعات شعبنا -بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس أو الطبقة- الحقوق الكاملة في الأمّة، بما في ذلك الحق في مستوى معيشي لائق».
ويلاحظ الكاتب بأنّ «الدستور الهندي لم يكن مجرّد نتاج لمناظرات في الجمعية التأسيسية. بل إنه يعكس قيم حركة الحرية التي وحّدت الشعب من مختلف الأديان واللغات والأعراق، بل وحتى الإيديولوجيات، في نضال مشترك ضد المستعمِر القمعيّ».
كانت الحركة الوطنية الهندية تريد إنهاء الحكم الاستعماري، وبالتالي إنهاء الاستغلال الاستعماري للهند. وكان لزاماً على الهند المستقلّة أنْ تمنح شعبَها في الوقت نفسه: الحرية من الحكم الأجنبي، ومن الفقر المدقع الذي فرضه هذا الحكم عليهم.
التخطيط الحكومي والعِلم والقطّاع العام
كانت الحركة الوطنية الهندية تدرك أنّ وطنَها لن يتحرَّر حقّاً إلّا بتحريره من الفقر المدقع، وتحسين العُمر المتوقع، ومحو الأمية. وكان لزاماً على البلاد لتنمية كلّ مواردها، أن تتوافق فيها التيارات السياسية الوطنية من حركة الاستقلال سواءً كانت محسوبة على اليسار أو اليمين، على رؤية مفادها أننا في احتياج إلى العلم والتكنولوجيا لتطوير القوى الإنتاجية في البلاد. فتم تشكيل لجان تخطيط تضع رؤية تنموية للبلاد، وتعزيز المؤسسات العلمية مثل مجلس البحوث العلمية والصناعية والمجلس الهندي للبحوث الزراعية لمساعدة الهند على تطوير التكنولوجيا المحلية. وتم توسيع التعليم العالي، بما في ذلك مؤسسات العلوم والتكنولوجيا، وتم إنشاء مؤسسات جديدة مثل المعاهد الهندية للتكنولوجيا.
ولم تكن مصادفةً أنّ أبرزَ رائدٍ لتخطيط التنمية الهندي، وهو سوبهاس تشاندرا بوس، كان متأثّراً بالتجارب السوفييتية للتنمية الاقتصادية المخطَّطة بعد ثورة أكتوبر والتي تلعب فيها الدولة والقطاع العام الدور القيادي. وقام بوس، الذي كان آنذاك رئيساً لحزب المؤتمر الهندي، بإنشاء لجنة التخطيط الوطني في الهند، عام 1938، وطلب من نهرو رئاستها. ونظر زعماء الحركة الوطنية إلى التخطيط وبناء القطاع العام باعتباره ضرورة، ليس فقط للنهوض الصناعي والزراعي للهند، بل وكذلك لإعادة توزيع فوائد التنمية على جميع قطاعات الشعب. لقد أرادوا تطوير القوى الإنتاجية للأمّة على أساس المعرفة العلمية. وكان هناك إجماع على أنّ التنمية تحتاج إلى البنية التحتية الأساسية، وأنّ الدولة وحدَها هي التي لديها القدرة على تطوير هذه البنية التحتية على المستوى الذي تحتاجه الهند للتنمية السريعة.
ومن ضمن المشاريع الكبرى الأساسية، احتلّ كلٌّ من الريّ وتوليد الكهرباء أهمية أساسية. وانعكس ذلك في قانون الكهرباء عام 1948 الذي ركّز على أنّ تطوير توليد الكهرباء والشبكة الوطنية هو أساس التصنيع، ورأى أنّ «التصنيع هو الوسيلة الأكثر أماناً لإنقاذ الناس من دورة الفقر الأبدية التي وقعوا فيها». شكلت هذه الرؤية للكهرباء كضرورة، وليس كسلعة سوقية لتحقيق الأرباح، الأساس لقانون الكهرباء الذي أصدره أمبيدكار.
الليبرالية الجديدة تعني إضعاف الدولة الوطنية
أحد أهم أدوار جهاز الدولة عبر التاريخ وفي أيّ مجتمع هو أنه أداة لإعادة توزيع الثروة. وقد حدث إضعاف للدولة في دورها التوزيعي مع سقوط الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، حيث إنّ رأس المال، الذي كان مهدَّداً خلال فترة صعود الدول الاشتراكية، لم يعد يشعر في فترة تراجع السوفييت بأنه مجبَر على منح التنازلات سواء للطبقة العاملة في بلدان المركز الرأسمالي أو للدول النامية. فأصبح رأس المال الكبير المتمركز في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية حرّاً في إعادة استعمار العالم. ليس بالطريقة القديمة، من خلال السيطرة السياسية والعسكرية المباشرة، بل بالتوازي مع الإيديولوجية النيوليبرالية (سياسات السوق الحرّة والخصخصة) القائمة على التدفّق الحرّ لرأس المال والسلع. وهذه هي الإيديولوجية التي يقدمها للعالَم البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، التي تأسست عام 1994.
أخيراً، من المفيد التذكير بثلاثة أساطير أو أكاذيب يتم ترويجها مع حملات تلميع صورة سياسات اقتصاد السوق الحرّة والخصخصة، والتي نوّه إليها الكاتب الهنديّ في كتابه:
1- تزعم الأجندة النيوليبرالية بأنّ مطالبتها بالتدفق الحر لرأس المال والسلع ليس مرتبطاً بخطوط الصَّدع المتمثلة في العنف العرقي والديني التي تنفتح في بلدان مختلفة، ولكن هذا غير صحيح، فكثيراً ما تستغل هذه الأجندة إضعاف الدول والمجتمعات بتعزيز هذه الانقسامات الداخلية الضارّة لتسهيل تمرير سياساتها على حساب الوحدة الوطنية للبلد المستَهدَف.
2- وفي حين تزعم العولمة الليبرالية الجديدة بأنها تعني التدفق الحر للناس والأفكار، والسماح للآخرين بتقاسم التقدُّم الذي يحدث في أيّ مكان، يتبيّن بأن حقيقة هذه العولمة تعني التدفق الحر للسلع ورأس المال، وخاصةً رأس مال المُضَاربيّ، وليس الأفكار أو المعرفة، حيث تصطدم بنظام «حقوق الملكية الفكرية» الاحتكاريّ الصارم.
3- وبينما تزعم هذه العولَمة أنّ المنافسة لا بدّ وأن تترجَم إلى مزيد من الخيارات المتاحة للمستهلك، وأنّ التجارة الحرّة تيسّر على المنتجين الحصول على صفقة أفضل، يتبيّن أنّ «المنافسة» في الممارسة العملية تعني عمليات الاندماج والاستحواذ على نطاق عالمي وخلق الاحتكارات الضخمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1210