قانون العنصر الأبطأ في التطوّر الاجتماعي

قانون العنصر الأبطأ في التطوّر الاجتماعي

عندما كنّا تلاميذَ في المدرسة الثانويّة، درَسْنا قانوناً في كتاب الكيمياء مفادُه أنّ سُرعةَ إنجاز سلسلةٍ مترابطةٍ من التفاعلات الكيميائية تُحدِّدُها سُرعةُ التفاعلِ الأبطأ في هذه السلسلة. ويبدو أنّ ما يشبه هذا القانون ينطبق بشكلٍ أكثر عمومية، ليس على الظواهر الطبيعية فحسب بل وكذلك على تطوّر المجتمعات والبلدان وحتى البشرية جمعاء، وفي مختلف المجالات بما فيها الاقتصاد والسياسة.

في البداية يمكن توضيح القانون بأمثلةٍ بسيطة من حياتنا اليومية. مثلاً، في طوابير الانتظار يكفي لتأخير الجميع أن تستغرق عملية حصول أحد الأفراد على السلعة أو الخدمة المُنتَظَرة وقتاً أطول من المعتاد. وهذا بدوره قد يكون سببه أحياناً بطء ذلك الفرد في إنجاز العملية، مثل شخصٍ مرتبك أو لا يعرف جيداً خطوات سحب راتبه من كوّة الصرّاف الآلي، أو يكون السبب غالباً أنّ «العنصر الأبطأ» والأكثر تخلّفاً وذَنْباً في المسؤولية عن عرقلة الجميع هو ليس الفرد بحد ذاته ولا الناس في الطابور، بل التعقيدات المفروضة من منظومة الفساد الكبير والبيروقراطية، التي أدّت إلى اضطرار كلّ الأفراد في كلّ الطوابير إلى استغراق وقت مضاعَف لسحب رواتبهم على دفعتين، لأن حجم سياسة التضخّم في العملة الوطنية أكبر بكثير من الأبعاد الفيزيائية لفتحة إخراج الأوراق النقدية من ماكينة الصرّاف الآلي.
من هذا المثال البسيط وغيره مئات الأمثلة الملموسة، يتبيّن أنّ لقانون العُنصر الأبطأ أهمّيةٌ سياسية واقتصادية كبيرة نظراً لتأثيره على تطوّر المجتمع والبلاد.

التفسير لأجل التغيير

معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع يجب ألّا تكون لمجرّد المعرفة بل «للتفسير من أجل التغيير» والتحكّم الواعي بالعمليات لحلّ الأزمات، ووضع الأمور على سكة التقدّم اللاحق بالسرعة المطلوبة.
لذلك يجب أن نحدّد في كلّ عمليّة اجتماعية واقتصادية-سياسية مَن هو العنصر الأساسي الأبطأ، لمعرفة المسؤول الأساسي عن التخلّف والتعامل معه بالطريقة المناسبة التي تحقق إزالة العقبة الكأداء أمام تطوّر الأغلبية العظمى من الناس. ويجب الانتباه إلى أنّ مصطلح «الأبطأ» وفق هذا القانون هو مفهومٌ نسبيّ ويحتاج إلى تعريفه الملموس بحسب نوع العملية المدروسة ومكانها والمرحلة التاريخية الملموسة.
على سبيل المثال، السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي تُعتَبَر «سريعة» و«متسارعة» و«تسابق الزمن» و«تحرق المراحل» على مقياس الإذعان لإجراءات صندوق النقد والبنك الدوليَّين، هي في الحقيقة، على مقياس وقانون التقدُّم الاجتماعي والإنساني ومقارنةً بالتغيرات الدّولية والعالمية المعاصِرة، ليست «العنصر الأبطأ» فقط في تطوّر سورية، بل هي العنصر الأكثر رجعيّة وتدميراً بالمعنى الحرفي هنا لكلمة «الرجوع» من سيّئ إلى أسوأ: التطوُّر العكسي إلى الوراء وما تحت الصفر (على القسم السالب من مستقيم الأعداد).

تناقض التحوّل شرقاً

على مستوى التطوّر العالمي أيضاً، ينطبق قانون العُنصر الأبطأ في «التفاعلات» الدولية، ويمكن لهذا القانون أنْ يفسّر الاستعصاءات المرحليّة في العمليّة التي باتت تعرف باسم «التحوّل شرقاً»، أيْ العملية المزدوجة التي تعني ابتعاد دول العالم عن المركز الإمبريالي الأمريكي وعملته الدولار والاقتراب من البدائل لدى القطب الدولي النقيض الصاعد (بقيادة روسيا والصين). فلنتذكّر هنا أنّ قانون «العنصر الأبطأ» يؤثّر على الظواهر المؤلّفة من سلسلة مترابطة، وعملية كبرى مثل «التحوّل شرقاً» هي تفاعُلٌ متسلسل بالفعل، أي أنّها حتّى تقطع شوطاً كافياً لإحداث حسمٍ كافٍ لميزان القوى الدولي الجديد، تحتاج إلى «كتلة حرجة» كافية من الحلقات (البلدان) للانضمام إليها، ليس بالمعنى العددي الكمّي فقط بل وبمستوى الإجراءات النوعية لعمق التحوّل شرقاً. فقانون «العنصر الأبطأ» كما هو حال بقية القوانين الطبيعية لا يعمل منفرداً بل مع جملة من القوانين بما فيها قوانين الديالكتيك الأكثر عمومية؛ كتحوّل التغيّرات الكمّية إلى نوعية وبالعكس.
فلنأخذ مثلاً التوسّع الذي حدث في كتلة بريكس مؤخَّراً، فحتى حلقات (بريكس بلس) الجديدة نفسها لا تسير بسرعة التطوّر نفسها من حيث مدى وعمق وجدّية «التحول شرقاً»، فإذا كانت روسيا والصين نظراً لحجمهما كقوى عظمى وخصوصية تاريخهما وصراعهما مع المركز الإمبريالي قادرتان على السير أسرع من الجميع في عملية «نزع الدولرة»، فإنّ دولاً أخرى في بريكس لا تستطيع حتى الآن مجاراتهما بالسرعة نفسها، لأسباب معقّدة داخلية وخارجية ومع ثقل تركة الهيمنة المزمنة للدولار وممانعة منظومات الفساد المرتبطة به، وبالتالي تبقى هناك «عناصر أبطأ» في التكتل تؤثِّر على سرعة التطوّر الإجمالي للجميع، ولو أنّها لن تؤثر على اتجاهه التاريخي العام الذي سيصل ليس فقط إلى الهزيمة النهائية لإمبراطورية الدولار بل ولجميع تلك القوى والأنظمة التي سيجمعها قاسم مشترك محدّد من وجهة نظر القانون الطبيعي-الاجتماعي الذي نتحدث عنه هنا: ألا وهو أنّها ستكون تلك العناصر الأبطأ في اللحاق بركب التحوّل، هذا إذا تسنّت لها أصلاً فرصة لتبدأ بذلك في حال غيّرت قرارها واستيقظت من أوهامها قبل أن تُدهَسَ تحت عجلات التاريخ عقاباً لها على حماقة الرّهان على الجانب الخاطئ منه.

مأساة «التفوُّق» على أغلبية «كسولة»!

لعلّ من الجوانب التربويّة الاجتماعية والتنظيمية المهمّة بما يخصّ قانون العنصر الأبطأ، هو الموقف تجاهه من وجهتَي نظر متناقضتين لأنهما طبقيّتان: فوجهة النظر البرجوازية، وخاصّةً الفردانية الليبرالية، تميل إلى الاحتفاء والتمجيد بالنجاح الفرديّ؛ بالـ«سوبرمان» المتفوِّق؛ بـ«رجل الأعمال» الناجح الذي «صنع نفسه بنفسه» واغتنى بسرعة قياسية بينما الملايين من مواطنيه يعانون الجوع وسوء التغذية، أو الاحتفاء ببضعة طلّابٍ حصلوا على «العلامة التامّة» أو تفوّقوا في امتحان شهادة أو بمسابقة خارج البلاد، بينما الملايين من مواطنيهم محرومون من إكمال التعليم أو غارقون في الجهل...إلخ. أمّا المستوى الاقتصادي والثقافي ودرجة الارتقاء الحضاري لمن تبقَّى (لأغلبية الشعب) فهذا ليس همّاً يشغل البرجوازيَّ ضيّقَ الأفق، وهذا الموقف ينسجم تماماً مع مصلحته كفرد من «الأقلية» الطبقية، ويصبح أكثر تطرّفاً في هذا الموقف كلّما انتمى إلى نخبةٍ أصغر وأعلى في هرم الثروة والفساد.
بالمقابل فإنّ الموقف التقدّمي (وجهة النظر البروليتاريّة الواعية) يقيّم ظاهرة «التفوّق» الفردي بحسب مدى وجوانب فائدتها لمصلحة الأغلبية الطبقية: حسناً، مَرحى للمتفوِّق وهنيئاً له، ولكن من جهة، يجب ألّا يغيب عن البال أنّ كلّ ناجحٍ متميّز في مجالِ عمله أيّاً كان يجب اعتباره متفوّقاً. ومن جهة ثانية أهمّ؛ ماذا سيقدّم المتفوِّق لتحسين أحوال بقية الناس في دائرته الاجتماعية، هل يساعد زملاءه مثلاً في أن يدرسوا وينجحوا أو حتى يرتقوا إلى مستوى التفوق مثله؟ هل يقدّم إبداعاً عملياً أو نظريّاً جديداً مفيداً لمصلحة أغلبية شعبه وبلده عموماً وليس شيئاً شكلياً للتباهي الفارغ؟ أم أنه – وهذا الأسوأ – يستخدم تفوّقه ونجاحه لخدمة الأقلية الناهبة والفاسدة ضدّ الجماهير الواسعة من شعبه؟ والأهم من كلّ هذا: كيف ينبغي العمل من أجل الارتقاء بأغلبية الناس وتحسين أحوالهم ومستواهم لدفع تطوّر المجتمع والبلد بأكمله للأمام وليس للمصلحة الضيقة لشريحة أو أفرادٍ معدودين؟ وهذه الفكرة على صلة وثيقة بالمفهوم الماركسي حول «الطليعيّة» و«القيادة»؛ وهذا هو المعنى الإيجابي التقدّمي لـ«التفوق»، وجوهر فعالية الحزب الشيوعي بوصفه الطليعة الأكثر تفوّقاً في الوعي والتنظيم للطبقة العاملة وسائر الكادحين.
إنّ قانون تأثير «العنصر الأبطأ» على تطوّر سلسلة العناصر المترابطة في المجموعة يجب أن تدفع الموقف التقدّمي للتفكير على النحو التالي: يجب أن نجد الطرق التي تمكّن أكبر عددٍ ممكن من الناس «الأبطأ» و«الأكسل» تطوّراً في المجتمع من تحسين أحوالهم وتطوير أنفسهم بشكل أسرع وبما يعود بالفائدة عليهم وعلى المجموع كلّه، فمن دون هذا لا يمكن تسريع التطوّر الإجمالي للمجتمع. هذه هي القناعة المستخلصة من التجربة والتي نجد التعبير عنها في النظرية الماركسية بصياغة مَفادها أنّ: القانون الأساسي للاشتراكية يُعنَى بالسعي الدائم لتلبية الحاجات المادية والروحية المتزايدة لأغلبية المجتمع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1176