المزاج الجماهيري كمجال للتأثير في المجتمع
بورشينيف بورشينيف

المزاج الجماهيري كمجال للتأثير في المجتمع

في كتابه «علم النفس الاجتماعي والتاريخ» يحاول الباحث السوفييتي ب. بورشينيف تأكيد أهمية وضرورة اعتناء النظرية الماركسية بالعوامل الذاتية في التاريخ البشري إلى جانب العوامل الموضوعية، وعدم الوقوع في مغالطة الاختزال الاقتصادوي المادّي المبتذل. حيث إن الاكتشاف الماركسي لما هو موضوعي يتطلّب في الوقت نفسه شرحاً وتفسيراً لما هو ذاتي دون رفض هذا الذاتي. وهكذا فإن علم النفس الاجتماعي يدرسُ الجانب الأكثر ذاتية لما هو موضوعيّ، ألا هو النفسية المتبدِّلة تاريخياً للإنسان.

إعداد: د. أسامة دليقان

قد يكون المزاج خاطئاً، كما هو الحال حينما ينشأ عن إشاعة كاذبة. لكن كلّما كان المزاج أثبت، كلما نمّ عن مجموعة الـ«نحن» وكلما شكّل بالتالي عاملاً اجتماعياً مميّزاً. وكلّما كانت درجة التطور الاجتماعي أعلى كلما أصبح المجال أوسع أمام هذه الجماعات الديناميكية للتأثّر والتأثير.
هذا وربما كانت الأمزجة إيجابية أساساً، أيْ تتجاوب مع الآمال والجهود الرامية إلى تحقيق التطلعات والمثل العليا. وهذه من شأنها أن تؤدي إلى التضامن الطبقي وأن تثير عاطفة وطنية وشعوراً ثورياً. كما قد تحثّ على التحرير الوطني وتحفّز الحماس العمّالي أو الثقة وتثير البهجة وترفع المعنويات وتصنع البطولات وتعمّق حب الوطن وتؤدي إلى نهضة أخلاقية أو فنية جمالية...إلخ.

المزاج قابلٌ للافتعال والعدوى

من خصائص المزاج بحسب بورشينيف أنه «أكثر عرضة لتأثير الوعي في المجال العاطفي من المجال الفكري». فإن العواطف والأحاسيس تكون مُسرّة أو غير مسرّة. فهي كشحنة كهربائية إما إيجابية أو سلبية. وربما أضحى المزاج معدياً عندما تسير الوقائع عكس التطلعات؛ فتصبح عندها الاتجاهات المميّزة هي الاستياء والقلق والتوتر والتعب والخوف والغضب والسخط والمزاج الكئيب أو المتشائم.
ويصف ب. د. باريجين، وهو باحث سوفييتي في المشكلات السيكولوجية الاجتماعية، أن هناك مظهراً للمزاج الاجتماعي مهمّاً للغاية: ألا وهو تجاوبه مع التأثير. فيمكن تشكيل المزاج وتغييره ضمن حدود، كما يمكن التحكم به. فمن جهة هو ينتقل بالعدوى عن طريق السلوك، ومن جهة أخرى ينتقل بالإقناع والدعاية، ويمكن تثقيف الشعب وتوجيهه بواسطة المزاج. وفي هذا دليل على إمكانيات علم النفس الاجتماعي، إذ يمكّن البحّاثة من تحليل العوامل المكوّنة للأمزجة، سواء في طبقة أم بين الطبقات، في بلد ما أو على مستوى دوليّ. كما يمكّنه من تحليل العواطف الوطنية والدولية التي تلعب دوراً بارزاً في حياتنا، ومن تحليل الحماس والقنوط بين الجماهير والتصرّفات الجماعية وحتى الجرائم الجماعية.
إنّ مزاجاً ما قد يوحّد الجماعة في إجماع على مواقف أو سلوكيات معيّنة، يوحّدهم في الـ«نحن»، إلّا أن لدى المزاج الجمعي ميلاً إلى التورط في «نحن» مثالية خيالية، حيث توجد في الحركات الجماهيرية الموجَّهة ضد النظام القائم عناصر طوباوية إلى جانب عناصر علمية. إن الجماعة ذات المزاج الجمعي المعيَّن تبحث عن الـ«نحن» التي تعتبرها هويتها الحقيقية، وقد تلجأ في سياق هذا البحث إما في الماضي الغابر، أو تتخيل هذه الهوية الجمعية في يوتوبيا ما. كما قد تستشرفها في زمن ما من المستقبل، وهذا الشكل الأخير هو الشكل الأكثر واقعية والأفعل عادةً لأحلام اليقظة. وطالما قام الناس في الماضي باعتلاء متن الإصلاحات والثورات وملءذأ أذهانهم بأفكار طوباوية عن جنّة كونية صافية، وكم تكون خيبة أملهم مريرة عندما يدركون أن الحياة مليئة بالتناقضات وأنه ما زال هناك بعض من الـ«هُم».
عندما نقرأ عند بورشينيف هذا التوصيف أعلاه، يمكننا ربطه مع مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية المعاصرة؛ فعلى سبيل المثال في الأزمة السورية، لطالما حاول الطرفان المتشدّدان في الصراع (متشدّدو النظام ومتشدّدو المعارضة) أنْ يبثّ كلّ منهم لدى أنصاره الوهم بإمكانية حسم النظام للصراع بالقضاء المبرم والسحق النهائي لأيّ معارضة، وكذلك متشدّدو المعارضة لطالما حاولوا بثّ الأوهام المشابهة على المقلب الآخر – أوهام إمكانية إسقاط النظام. فكلّ من الطرفين المتشددين لديه مزاج طوباويّ بإمكانية قيام الـ«نحن» بسحق الـ«هُم». وبالأساس تطلّب الأمر من أغلبية السوريين وقتاً وتجربةً مرّة للتوصل إلى اقتناعٍ يتوسَّع بأنّ قيام الطرفين المتشدّدين أصلاً بتقسيم المجتمع شاقولياً إلى «نحن» ضدّ «هم» بحسب تأييد أو معارضة أحد الطرفين المتشدّدين، إنما كان تقسيماً ضارّاً ولا يعكس الانقسام الطبقي الواقعي للمجتمع بين ناهبين ومنهوبين، بل وكان يخفي بالحقيقة الثنائية الحقيقة التي يشكّل فيها الـ«نحن» الأغلبية الساحقة المسحوقة والمنهوبة من الشعب السوري، في مقابل الـ«هم» الأقلية الناهبة الفاسدة الضيقة في عددها ومصلحتها والمتوزّعة على طرفي متراس التشدّد.

المسرّة بين الإنسان والحيوان

صحيح أن علماء عديدين، ومنهم الفيزيولوجيان السوفييتيان أنوخين وسيمونوف، حاولوا تقديم نظرية فيزيولوجية بحتة عن المتعة والاستياء. ووجدوا أن عواطف معينة تترافق مع تغيرات محددة في الأقسام الموجودة تحت قشرة الدماغ وفي أجهزة الجسد الفيزيولوجية، غير أنهم اعتبروا من البديهي أن العواطف هي بالضرورة إما «نعم» أو «لا»، جيدة أو سيئة، مسرّة أو غير مسرّة... ومما أضفى على هذه النظرية ثقلاً معيناً تجربة أجريت في الوقت نفسه تقريباً بدت كأنها إثباتٌ لوجود «مركز مسرّة» في دماغ الحيوان وبالتالي بالمقابل «مركز استياء». فقد أدخل قطب كهربائي موصول بمصدر طاقة في دماغ فأر بحيث كان بمقدور الفأر أن يشغله ويطفئه بنفسه وكانت المفاجأة أن الفأر زوّد المنبه الكهربائي بالطاقة رغم أنه لا يعطي أيّ عوامل مفيدة له بيولوجياً. واستنتجوا من ذلك أن الحافز كان مسرّاً للحيوان (يبعث لديه السرور).
وبعبارات أخرى كان التيار يثير مركز المسرة في دماغ الفأر. ولكن التفسير الأرجح هو أن الإثارة الكهربائية سببت إشباعاً هلوسياً لبعض المتطلبات لدى الحيوان وبما أنها كانت وهمية ولم تسبب مضاعفات جانبية فيزيولوجية فقد لجأ الحيوان إليها مرة إثر مرة إلى ما لا نهاية.
ويكتب بورشينيف بأنّ العواطف السلبية والإيجابية لا تتعلق مباشرة بآليتها الفيزيولوجية. فكيف إذا ندرك تعارضها؟ إنّ التصرفات وحدها ليست المحك، فقد يخضع المرء طوعياً للألم وهو قطعاً إحساس سلبي مستمِداً منه في الوقت نفسه إحساساً إيجابياً، هل يعني ذلك أن الإنسان وحده القادر على إخضاع الإحساسات السارة والمؤلمة لمحرّكات عليا. لا، لأن طبيعة الأحاسيس تتغير. وهذا يصح أيضاً على الحيوان. فيمكن تدريب كلب ليتجاوب إيجابياً مع الألم (مثل صدمة كهربائية) إذا ما دعمنا ذلك بتصرف إيجابي كالإطعام مثلاً، ففي هذه الحالة يخضع للألم بملء إرادته.
وهكذا فإنّ المسرة والامتعاض مصدرهما عند الإنسان معقّد ولا يقتصر على الجوانب الفيزيولوجية البيولوجية البحتة بل من الظواهر النفسية المعقّدة، ويتعلّقان إما بتحقيق الأهداف والمثل العليا والرغبات أو الفشل في الوصول إليها.

ما هي السعادة؟

سيكولوجياً، السعادة هي تطابق الإنجازات مع التطلّعات. والسعادة هي من النمط الأسمى، ثم تأتي البهجة دونها، إلا أنها التعبير عن التطابق ما بين الواقع والحلم أو الأمل أو التطلّع. أما المسرة فهي على مستوى أدنى من الاثنتين السابقتين. فهدفها أكثر غموضاً رغم أنه لا يزال هو نفسه بشكل أساسي. وهكذا نرى أن المسألة متجذرة في الخطط والمثل العليا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1177