حول «المثالية الذاتية» في النسبية والميكانيك الكوانتي

حول «المثالية الذاتية» في النسبية والميكانيك الكوانتي

في ورقة مشتركة نشراها أواخر العام 2017، يلاحظ الناقد فلورينتين سمارانداش (من قسم الرياضيات والعلوم بجامعة نيومكسيكو الأمريكية)، والباحث فيكتور كريستيانتو، أنّ أفكار ألبرت أينشتاين أيضاً وليس فقط أفكار مؤسّسي الميكانيك الكوانتيّ، كانت تنطوي على الكثير من المثالية الذاتية من الناحية الفلسفية، وهو أمرٌ قد يحجبه التناقض الظاهر بين النسبية والميكانيك الكوانتي، ولا سيّما نقد أينشتاين لبور وهايزنبرغ، حيث كان في عدّة مناسبات أكثر واقعية إلى حد ما مقارنة بالذاتية المفرطة لدى هذين الأخيرين.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

إذا قرأنا كتاب توماس كون «بنية الثورات العلمية»، نستطيع تلمّس انطباعه الخاطئ بأنّ العلم الحديث لا يدور سوى حول «طهو» الأفكار بغرض أن تصل إلى درجة القبول بالإجماع من جانب العلماء المحترَمين. نعم، إنّ أفكار «كون» أقرب إلى مذهب البنيويّة. ويبدو أن رسالته هي أن جميع النشاطات في العلم تهدف إلى بناء نموذج أو نظرية يمكن القبول بها من أوسع جاليةٍ علمية ممكنة. ولم يعد الأمر يتعلق بالعثور على الحقيقة المختبئة في الطبيعة.

ولكن إذا تذكّرنا تاريخ العلم، منذ الفلكيّ تاكو براهي، مروراً بكوبرنيك، وغاليليو ونيوتن... نجد أنّ همّهم الشاغل لم يكن الحصول على إجماع الآراء في زمانهم، بقدر ما تجشّموا عناء الحفر عميقاً بحثاً عن الحقيقة في أرصادهم وعملهم التحليلي، وحالما يعثرون على ما يقتنعون به كانوا يجاهرون به، في التزام بضميرهم العِلمي مهما كلّفهم الثمن...

نعم، من المؤسف أنّ إجماع العلماء في حالاتٍ كثيرة يكون خاطئاً... ويمكن ضرب أمثلة كثيرة على ذلك، منها، نموذج الدوائر الفائقة في الفلك لدى بطليموس، والذي حلّ مكانه بعد ذلك نموذج مركزيّة الشمس عند كوبرنيك. ونجد في الفيزياء الحديثة اليوم «وحوشاً» مماثلة، نتيجةً لنظريّات مقبولة على نطاق واسع. حيث تظهر هذه الوحوش بسبب الميل إلى إطلاق تسمياتٍ مثل «المظلمة» و«الشبحية» على كلّ ظاهرة لا نعرفها: ثمّة كثيرٌ من الأشباح مثلاً في نماذج الكونيّات مؤخّراً؛ مثل «المادة المظلمة» و«الطاقة المظلمة».

المثالية الذاتية لدى أينشتاين

لأولئك الذي يستصعبون القبول بأنّ أينشتاين كان يعاني من المثالية الذاتية فلسفياً، على الرغم من أنّه كان أكثر واقعية بكثير إذا ما قورِنَ بأخصامه الآخرين من علماء الميكانيك الكوانتي، دعونا نبدأ ببضع كلمات من أقوال أينشتاين عام 1954:

«لمّا كان من الصحيح إذاً، أنّ الأساس البدهيّ للفيزياء النظرية لا يمكن استخلاصه من التجربة بل يجب اختراعه بحرّية، ألا نستطيع أن نأمل بالعثور على الطريقة الصحيحة؟ إنني أجيب وبلا تردّد بأنه توجد، برأيي، طريقة صحيحة، وأننا قادرون على إيجادها. أنا أرى أنّ من الصحيح اعتبار الفكر المحض قادر على فهم الواقع، كما كان يحلم الأقدمون».

نودّ أنّ نشدّد على العبارة الأخيرة: «الفكر المحض يستطيع فهم الواقع كما كان يحلم الأقدمون». إنّها تلتقط جوهر الفلسفة المثالية لدى أينشتاين. فهو يسعى إلى إثبات أنّ الفكر المحض لوحده يكفي، استناداً إلى المخيّلة البشرية. وتدلّ على ذلك أيضاً أقوال أخرى لأينشتاين منها: «المخيّلة أكثر أهمّية من المعرفة».

وفي هذا الصدد، يمكننا تذكّر ورقة كتبها عالِم الرياضيات والمنطق والفيلسوف النّمساويّ كورت غودل Kurt Godel في العام 1949 تحت عنوان: «ملاحظة بشأن العلاقة بين نظرية النسبية والفلسفة المثالية»، مما يدلّ على أنّ ملاحظة المثالية في النظرية النسبية ليست مسألة جديدة، على الأقل لدى بعض الفلاسفة.

ولذلك نؤكّد على أنّه في الوقت نفسه الذي نعترف فيه بأنّ أينشتاين وقف بالفعل ضدّ «السوليبسيزم» (المثالية الذاتية) الكوانتية وطريقة أنصار الميكانيك الكوانتي بالتلاعب بالواقع، ولكنه في نهاية المطاف كان هو نفسه من الشخصيات الرئيسة التي فتحت الطريق نحو مواقف مثالية، عبر اختراعه للنظرية النسبية وتمسّكه بها.

وبذلك نفهم لماذا، بعد القبول الواسع للنسبية من المجتمع العلمي، غاب بشكل كلّي تقريباً كلّ نقاش حول بنية «الأثير» كمادّة تشكّل الأساس الكامن تحت الظواهر الكهرومغناطيسية. ولكن من حسن الحظ بأنّه بعد عدة سنوات من اختراع أينشتاين للنسبية العامة، استطاع أستاذه هيندريك لورنتز إقناعه على ما يبدو بأن يعترف بدور الأثير. ويبدو أنّ أينشتاين أصغى إلى أستاذه وأدلى بتصريح علنيّ بأنّه «لا يمكن تصوّر النسبية العامّة دون أثير» (انظر محاضرة أينشتاين بتاريخ 5 أيار 1920).

في نهاية المطاف، كان أينشتاين كائناً بشرياً مثلنا جميعاً من حيث إمكانية الوقوع في الأخطاء والتشوّش. وحاول جهده أن يصلح أخطاءه، كما في محاضرته المذكورة أعلاه بعنوان «الأثير والنسبية»، وكذلك في دحضه القوي لوجهة النظر الاحتمالية الرياضية في الميكانيك الكوانتي (مدرسة كوبنهاغن). [تعقيب المعرّب: سنتناول في مقالٍ لاحق كيف أنّ أينشتاين حتى في محاضرته المشار إليها، حول الأثير والنسبية، لم ينجُ من الوقوع في أخطاء مثالية كان أبرزها الفصل بين الحركة والمادّة].

ومثلما قال ليندنر: «كان أينشتاين مثالياً رياضيّاتياً ذاتياً... تتألف الفيزياء لديه من نماذج رياضية للتجربة الذاتية – لأحاسيسه وقياساته». ويمكن ملاحظة هذا الاتجاه لديه بوضوح في ورقة نظريته النسبية الخاصة، حيث استعمل تزامن الساعات لإثبات آرائه. وكذلك في نظريته النسبية العامّة، حيث بدأها بالتخيُّل الذهني، الذي يسمّيه «تجربة فكرية» gedankeneksperiment. وبتعبير آخر، اعتمد أينشتاين عند تطويره لكلتا النظريَّتين، على نماذجه العقلية، بدلاً من البحث الأعمق عن حقيقة الديناميك الكهربائي والجاذبية. ورغم أنّ التاريخ يخبرنا بأنّ هذه المقاربة ربحت الشهرة والمجد في زمانها، واعتبر كثيرٌ من الناس أنّ نظرية أينشتاين عن الجاذبية تجاوزت نظريات عديدة أخرى بشأن الجاذبية، بما فيها النظريات والتجارب الشهيرة لنيكولا تسلا (الذي اقترح نظرية «الجاذبية الديناميكية» موحِّداً النظرية الكهرومغناطيسية مع الجاذبية)، لكنّ هذا الالتزام من أينشتاين بدور الإحساس الذاتي والقياس يبدو أنه ألهم أجيالاً لاحقة من الفيزيائيين، بمن فيهم بور وهايزنبرغ، اللَّذين يمكن تلخيص فحوى نظرتهما بما يلي: «ليست مهمّتنا في الفيزياء الحديث عن الحقيقة بل فقط عمّا يمكن قوله بشأن تجاربنا».

ونقتبس من هنري لندنر مجدداً: «الميكانيك الكوانتي – متطوراً من نظرية أينشتاين الكوانتية – هو نموذج احتمالي لتجربة المراقِب لتفاعلات الضوء/المادة المكمَّمة». فلا غرابة بالتالي، بأنها تقود إلى كلّ هذه التناقضات والتشوّشات والمفارقات، على غرار «قطة شرودنغر» التي تعتبر «حيّة وميتة» في آن معاً حتى يقرّر «المراقب» ذاتياً موتها أو حياتها!

هل يمكن صياغة «جاذبية كوانتية»؟

لعبت المثالية البيركلية (نسبةً للفيلسوف المثالي الذاتي والقسّ بيركلي)، دوراً في أفكار الميكانيك الكوانتي لاحقاً، وفي التناقضات الناشئة عنه. دعونا نبدأ باقتباس من أينشتاين: «إن الميكانيك الكوانتي مدهش للغاية. ولكنّ صوتاً داخلياً يقول لي بأنه ليس الشيء الحقيقي. النظرية تثمر الكثير، ولكنها بالكاد تقرّبنا أكثر إلى سرّ النظرية القديمة. وعلى كل حال فإنني مقتنع بأنّه [الله] لا يلعب النّرد».

ويمكننا إعادة صياغة هذا الرأي، بالاقتباس من ماركون كابوليت: «إنّ شكلاً من المثالية البيركلية ملازمٌ للميكانيك الكوانتي الأورثوذوكسي». واستنتج كابوليت أيضاً بأنّه من المستحيل النجاح باشتقاق الميكانيك الكوانتي من «المكان المنحني»، لأنّ هذا الأخير في النسبية العامّة يحتاج إلى الطاقة، أي يحتاج إلى «حقيقة موضوعية» من دون مراقبين [تعقيب المعرّب: يمكن أن نضيف إلى ذلك انتقاد فكرة «انحناء المكان» بحد ذاتها بوصفها إسباغاً خاطئاً لصفات شيئية «الانحناء» «والتمدّد» على المكان، أي «تشييئاً» للمكان وكأنه «مادة» مستقلّة بذاتها، في حين أنه في الحقيقة «أسلوب» لوجود المادة]. وإذا اتبعنا محاججته، يكون من الواضح أنّ جميع محاولات إيجاد نظرية صحيحة لـ«الجاذبية الكوانتية» تمثل تناقضاً وتشويشاً في مفاهيمها الأساسية بالذات.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1129
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:46