عنصريّة «نمط الإنتاج التكنولوجي» الرأسمالي: التخطيط العصبي نموذجاً
مرّت قرون على «تحرير العبيد» رسمياً في كثير من الدول الرأسمالية «المتحضّرة»، لكنّ أسطورة «تفوّق الرجل الأبيض» ما زالت مرضاً مزمناً فيها، ليس ثقافياً واجتماعياً فحسب، بل وفي المجالات العلمية والتكنولوجية أيضاً. ومن المنشورات التي نوّهت إلى الأضرار العلمية والصحّية لهذا الأمر، دراسةٌ في مجلة «الطبيعة للعلوم العصبية» نُشرت أواخر العام 2022 ركّزت على الانحياز العِرقي في علوم الدماغ المُهَيمن عليها غربيّاً، حيث لاحظ المؤلّفون الستّة (وجميعهم من جامعات أمريكية) أنّه ورغم «بدء الاعتراف من جانب مؤسسات وأفراد بوجود العنصرية والتحيّز والحواجز المعيقة لمعاملة شاملة داخل مجتمعنا... لكن لم يلقَ الأمر سوى اهتمام محدود بعدم المساواة في طرائق البحث والأساليب التحليلية التي نستخدمها».
استشهد مقال حديثٌ نُشِرَ منتصف شباط الماضي 2023 في مجلة «نوتيلوس للعلوم العصبية» بموقف محرج وُضعَت فيه طبيبة أمريكية أمام ابنة عمّها «السوداء» لأنّ معدّات تثبيت أقطاب جهاز تخطيط الدماغ الكهربائي ليست مصنوعة لتلائم نوعية شعر الزنوج!
بحسب المقال، كانت عائلة الدكتورة ياسمين كواسا تزورها في مدينة بوسطن، وأرادوا رؤية المختبر الذي تقضي فيه الكثير من ساعات عملها. آنذاك كانت ياسمين قد نالت درجة الدكتوراه منذ ثلاث سنوات، وتتابع بحثها العلمي في برنامج لجامعة بوسطن حول كيفية معالجة الأصوات في دماغ المصابين بـ«اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه» ADHD، مما يتطلّب مراقبة أدمغة عيّنة من المرضى باستخدام جهاز تخطيط كهربية الدماغ (EEG)، والذي يعتمد على إلصاق أقطاب كهربائية على فروة الرأس لتسجيل الإشارات الكهربائية المنبعثة من الخلايا العصبية النشطة.
وعندما كانت الدكتورة ياسمين ترحّب بعائلتها في المختبر، سألتْها ابنة عمّها فيما إذا كان بإمكانها تجربة جهاز تخطيط كهربية الدماغ لترى كيف تبدو موجات دماغها. رفضت ياسمين الفكرة وقالت لها: «مخطط كهربية الدماغ لن يعمل بشكل جيد مع نوع شعركِ». آنذاك أدلَتِ الدكتورة بهذا الجواب بوصفه حقيقةً علميّة عاديّة ومعروفة ومستنتَجة بالفعل من الممارسة الطبية باستعمال الجهاز المذكور على مرضى من أعراق مختلفة. لكنّ حالة الذهول والاستغراب التي أبدتْها ابنة عمّتها وأمّها إزاء اكتشافهما أنّه يمكن استبعاد جزء من البشرية من حقّهم بتلقّي نتيجة دقيقة لتخطيط دماغهم بسبب لون بشرتهم (وطبيعة شعرهم الكثيف الخشن والمفتَّل)، أحدثت نوعاً من الصحوة المفاجئة في أعماق نفس الدكتورة ياسمين.
اعترافٌ صادم بالمشكلة
المثال المذكور أعلاه ليس استثناءً، فقد أكّد مقال المجلّة العلمية نفسه ما يلي: «إنّ التحيّزات ضدّ الخصائص الجسدية، مثل الجلد الداكن والشعر المجعَّد الكثيف، يتم دمجها في جميع تقنيات التصوير العصبي الرئيسيّة، بما في ذلك تصوير الدماغ الكهربائي EEG، والتحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء fNIRS، والتصوير بالرنين المغناطيسي MRI، بالإضافة إلى طرق بحث علم الأعصاب الأخرى المستخدَمة من قبل علماء في الدول الغربية. هذه الأنماط الظاهرية شائعة بين السُّود، والتي يمكن أن تؤدّي ليس فقط إلى الاستبعاد من البحث، ولكن إلى قراءات غير دقيقة في وقت التشخيص السريري».
وفي مثال آخر، لاحظت باحثة تدعى تيرمارا باركر خلال الأيام الأولى من دراستها لنيل درجة الدكتوراه بجامعة ييل، بأنّه خلال استخدامها التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء fNIRS لبحثها في مرض التوحُّد، كان معظم المتطوّعين للدراسة من العِرقَين الأبيض والآسيوي، في حين تم رفض اشتراك السود في الدراسة بسبب أنّ القبعة الخاصة بجهاز تخطيط الدماغ الكهربائي لم تتلاءم مع النمط الطبيعي لشعر رأسهم، والبيانات الناتجة عن تصويرهم كانت أقل جودة وأكثر تشويشاً؛ فبشرتهم السوداء تمتص كمية أكبر من الضوء في هذا الاختبار الذي يعتمد على الأشعة تحت الحمراء. وعلّقت الدكتورة باركر (التي لديها أخت مصابة بالتوحّد وذات بشرة سوداء): «أستطيع سلفاً أن أرى شخصياً بأننا نفوّت بذلك مجموعات فرعية كاملة من السكان»، وأعربَتْ عن قلقها بأنّ محدوديات التكنولوجيا والبيانات المفقودة بسبب ذلك سوف تلحق ضرراً من خلال تفويتها فرصة فهم أكمل للمرض المدروس وخفاياه، وتؤدي إلى سوء تطبيق للعلاجات على أناس مثل أختها (من العرق الأسود).
عنصريّة في قواعد البيانات الكُبرى
من منظور بحثيّ، يصعب قياس الحجم الكامل للاستبعاد، بحسب دانيال برادفورد، الأستاذ المساعد في العلوم النفسية بجامعة ولاية أوريغون، حيث يقول «إنها مسألة إغفال». العديد من دراسات مخطط كهربية الدماغ ببساطة لا تشير إلى أعراق المشاركين فيها. لكن مجموعات البيانات السكّانية الكبيرة والمستخدَمة للكشف عن الارتباطات العصبية الحيوية بالسلوك تكون «بيضاء بشكل ساحق» بحسب وصفه؛ مثلاً حوالي 95% من البيانات التي تمّ جمعها بواسطة «البنك البيولوجي» Biobank في المملكة المتحدة، وهي أكبر مجموعة قواعد بيانات للتصوير العصبي الطبّي في العالم، تتوافق مع موضوعات دراسة «بيضاء» عرقياً. و«مشروع الشبكة العصبية البشرية» HCP، وهو اتحاد ضخم لتصوير الأعصاب مقرّه الولايات المتحدة، يحوي نسبة 76% من بياناته لبشر من العرق الأبيض. كما وتظهر النتائج الأولية من الاستطلاع الدولي الذي يحمل عنوان «تخطيط الدماغ الكهربائي ومشروع الشَّعر» EEG and Hair Project التابع لجامعة وسط فلوريدا أنّ قرابة نصف الباحثين المستطلَعين (البالغ عددهم 200 باحث) قد سجّل كلٌّ منهم بيانات لتخطيط الدماغ الكهربائي لأقل من 5 أشخاص سود فقط على مدار حياتهم المهنية بأكملها!
أهمية دراسة التنوّع البيولوجي العِرقي
أظهر التحليل الوراثي للسكّان، مراراً وتكراراً، بأنّ البشر بتاريخهم الحديث لديهم اختلافات من الناحية البيولوجية بحسب العرق، ويجب عدم الخلط بين هذه الحقيقة الموضوعية وبين التشويهات والادّعاءات غير العلمية التي تحطّ من قدر أعراق بعينها، وهو الأمر الذي لطالما استخدمته التيارات الاستعمارية والعنصرية ودعاة تقليص عدد السكان على غرار مذهب المالتوسيّين والمالتوسيّين الجدد.
أما علمياً، فإنّ أدمغتنا تتأثر في تشكّلها بتجاربنا الثقافية وتجارب حياتنا، بما في ذلك النظام الغذائي، وكيف ترعرعنا في الطفولة، والمصادر التربوية والتعليمية، والتي يمكن أن تتراكب مع مجموعات إثنية وديمغرافية اجتماعية وعرقية.
وهنا تبرز أهمية دراسات التصوير العصبي العابر للثقافات، حيث يمكن أن تؤثّر الثقافة بالنشاط العصبي الكامن خلف نطاق من الوظائف المعرفية والسلوك، مثل إدراك الذات أو معالجة اللغة.
لم تتم معالجة مشكلة تحيّز التصوير بالرنين المغناطيسي ضد السُّود، على الرغم من أنها كانت معروفة جيداً لسنوات عديدة.
وفي دراسة أجريت عام 2022، بدأ فريق من الباحثين من ألمانيا وسنغافورة وكندا والولايات المتحدة في دراسة ما إذا كانت خوارزميات تعليم الآلة (المدرَّبة على مجموعات بيانات كبيرة للتصوير العصبي منحازة للسكّان البيض) تتنبّأ بدقّة بسلوك الأمريكيين السُّود. يهدف علماء الأعصاب الإدراكيّون إلى استخدام هذه الخوارزميات للمساعدة في الوقاية من الاضطرابات النفسية وتشخيصها وعلاجها مثل الاكتئاب والقلق، ولكن إذا كانت الفرضيات الأساسية غير دقيقة، فقد تكون التوصيات السريرية الطبية خاطئة أيضاً.
تعقيب ختامي
قد يعتقد كثيرون أنّ الأجهزة والتقنيات التي تستخدم في مجالات علمية وبحثية لا بدّ أن تكون «بطبيعتها» حياديّة وموضوعية، في حين تضيء لنا الأمثلة المطروحة أعلاه على جانب مهمّ يستدعي إعادة طرح مشكلة جدّية سبق أن تطرَّق إليها الماركسيون، ألا وهي مسألة «نمط الإنتاج التكنولوجي» الخاصّ بكلّ تشكيلة اقتصادية-اجتماعية، حيث يبدو أنّه مرتبط ارتباطاً قويّاً بنمط علاقات الإنتاج الاجتماعي السائدة. ويبدو محقّاً ما شدّد عليه أحد السياسيين اليساريّين الأفارقة مؤخّراً من أنّ «الرأسمالية عنصريّة بطبيعتها». وفي الحقل الطبّي على سبيل المثال، من المريع حقاً أن تكون البيانات المرجعية الكبرى التي تتخذ كمصدر لصياغة معايير واستنتاج «قوانين» لكيفية تطوّر أمراض معيّنة، منحازةً إلى عرقٍ واحد، بل والأدهى من ذلك أنّه عملياً العِرق الذي يشكّل أقلّية البشرية جمعاء، في حين يتم تقليص تمثيل الأغلبية «الملوَّنة» من البشرية. ربما كنا سنتوصل إلى نتائج أكثر دقة وفائدة فيما لو صمّمت قواعد البيانات و«أدوات الإنتاج» الطبّي التي نستخدمها بحيث تولي الاهتمام اللازم للتنوّع العِرقي الموضوعيّ الموجود لدى النوع البشري، ولكن يبدو أنّ تحقيق ذلك يحتاج إلى نظامٍ يتجاوز التخلّف العِلمي الذي أثبتت الرأسمالية بأنها تتميّز به في هذا المجال، الأمر يحتاج إلى منظومة مختلفة جذرياً تحرّر البشريّة من أساس كلّ تمييز وعنصرية، والانقسام الطبقي للمجتمع والاستغلال المرتبط به. باختصار، إنّ التطوّر العِلمي والتكنولوجي الإنساني والعادل يحتاج بالضرورة إلى الاشتراكية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1127