«أثير» أينشتاين وخطأ الفصل بين المادّة والحركة (1)

«أثير» أينشتاين وخطأ الفصل بين المادّة والحركة (1)

ألقى ألبرت أينشتاين في جامعة لايدن الهولندية بتاريخ 5 أيار 1920 محاضرةً شهيرة بعنوان «الأثير والنظرية النسبية»، بعد أن مضت سنوات على نشره للنسبيّة الخاصّة (1905) ثمّ العامّة (1915). فيما يلي محاولة قراءة، من وجهة نظرٍ مادّية ديالكتيكيّة، للأفكار التي قدّمها أينشتاين في محاضرته بشأن «المادّة» و«الحركة»، حيث تعتقد هذه القراءة أنّ أينشتاين خلصَ إلى نتائج مثاليّة فلسفيّاً إزاء هاتين المقولتَين.

يخصّص أينشتاين قسماً من محاضرته في لايدن، لاستعراض المسار التاريخي لظهور وتطوّر فرضية الأثير في علم الفيزياء، فيلاحِظُ بأنّ «فرضية الأثير لاقَتْ دعماً طازجاً لها عندما تمّ في النصف الأول من القرن 19 اكتشافُ التشابه الكبير بين خصائص الضّوء وخصائص الأمواج المرنة في الأجسام العادّيّة؛ حيث ظهر أنّه لا يمكن أنْ يرقى أيُّ شكٍّ إلى ضرورة أنْ يُفسَّرَ الضوءُ كعمليّةٍ اهتزازية في وسط مَرِنٍ خاملٍ يملأ الفراغ «أو المكان/الفضاء» الكونيّ».

ويتابع أينشتاين، «ومن واقع قدرة الضّوء على أن يُستَقطَب، ظهرت أيضاً نتيجةٌ ضروريّةٌ تقول إنّ هذا الوسط، الأثير، لا بدّ أن تكون له طبيعةُ جسمٍ صلب، لأنّ الأمواج العَرْضيّة غير ممكنة في مائع، بل فقط في صلب. وهكذا كان لزاماً على الفيزيائيّين أن يتوصّلوا إلى نظريّة الأثير (شبه الصلب) الناقل للضّوء، والذي لا تَنقُلُ أجزاؤهُ حركةً إلى بعضها، باستثناء الحركات الصغيرة للتشوُّه الشكليّ الذي يُصيبُه، تطابقاً مع موجات الضّوء. وتسمّى هذه النظرية أيضاً نظرية الأثير السُّكونيّ الناقل للضوء».

حتّى هذه النقطة، نلاحظ بأنّ فرضية الأثير في المرحلة التاريخية المذكورة، وبغضّ النظر عن درجة نواقِصها أو صحّتها، لا تتناقض مع المبادئ العامّة للنظرة المادّية الفلسفية إلى العالَم، لأنها افترضت وجوداً موضوعيّاً لمادّة ما كأساسٍ لتفسير الظاهرة الكهرومغناطيسية (والضوء ضمناً)، دون أوهامٍ عن انعدامٍ لحركة هذه المادّة؛ فالأثير حتى ذلك الوقت اعتُبِرَ متحرّكاً ولو بشكل ميكانيكيّ بسيط على هيئة «تشوُّه بالشكل» يكون مسؤولاً عن (أو متطابقاً مع) الاهتزاز ونقل الموجات الضوئية. فحتى ذلك الوقت لم يكن يُنظَرُ إلى الأمواج الكهرومغناطيسية كأنّها «أعجوبةٌ» في «فراغ عديم المادّة»؛ كانتشارٍ بلا ناشر مادّي، أو حركةٍ بلا محرِّكٍ مادّي، أو انتقالٍ بلا ناقلٍ مادّي.

أثير ماكسويل

مهما كانت هذه النظرة «ميكانيكيّةً»، لكنّها كانت مادّيّةً وسائدةً آنذاك بما في ذلك لدى ماكسويل. يتابع أينشتاين، «بالنسبة لماكسويل نفسه، كان الأثير لا يزال بالفعل يمتلك خصائص ميكانيكية بحتة، ولو من نوعٍ أكثر تعقيداً بكثير من الخصائص الميكانيكية للأجسام الصلبة الملموسة. ولكنْ لا ماكسويل ولا أتباعُه نجحوا في تطويرٍ تفصيليّ لنموذجٍ ميكانيكيّ للأثير يمكن أنْ يُرسيَ تفسيراً ميكانيكيّاً مُرضِياً لقوانين ماكسويل للحقل الكهرومغناطيسيّ. كانت القوانين واضحةً وبسيطةً أمّا التأويلات الميكانيكيّة فخرقاء ومتناقضة».

ثمّ يأتي أينشتاين على ذكر هاينريش هيرتز وتأثير أبحاثه في الديناميك الكهربائيّ على علماء عصره، الذين بعد أن سعوا سابقاً إلى «نظريّة شاملةٍ تكتفي بإقناع نفسها بمفاهيم ميكانيكيّة حصراً (كالكثافات والسرعات وتشوّهات الشكل والتوتّرات) أخذوا بالتدريج يعتادون على الاعتراف بالقوّة الكهربائية والمغناطيسية كمفاهيم أساسيّة جنباً إلى جنب مع الميكانيك دون السّعي إلى تفسيرات ميكانيكيّة لها. وهكذا تمّ التخلّي بالتدريج عن النظرية الميكانيكية البحتة للطبيعة».

ولكنّ أينشتاين يعيب على هيرتز أنّ نظريته «تعاني من كونها تعزو إلى المادّة والأثير حالاتٍ ميكانيكية من جهة وحالات كهربائية من جهة ثانية، الأمر الذي لا يستقيم وفق أيّة علاقةٍ بينهما يمكن تصوُّرُها» على حدّ تعبير أينشتاين الذي اعتبر نظرية هيرتز تعاني من «المثنوية» dualism بمعنى عدم الاتّساق المنطقيّ بين مبدَأين لا يمكن التوفيق بينهما.

مستويات الحركة بحسب إنجلس

غير أنّ أينشتاين لا يبدو أنّه يقدّم هنا حجّةً مقنعة بشأن لماذا علينا أنْ نرفض إمكانيّة أن تتمتّع مادّةٌ ما، سواء كانت أثيراً أم غيره، بأكثر من شكلٍ من أشكال الحركة المادّية، وبالتحديد نتساءل، لماذا يحظر أينشتاين على الأثير أنْ يتمتّع بمستويَين من الحركة متراتبَين في التعقيد من الأبسط إلى الأعقد، ميكانيكي، وفيزيائي (كهرومغناطيسي)؟ وذلك إذا استعملنا تصنيف فريدريك إنجلس لمستويات تعقيد حركة المادّة؛ حيث يبدأ أبسطها بالمستوى الميكانيكي، يليه الفيزيائي، ثمّ الكيميائي، فالبيولوجي، ثم الاجتماعي وحركة الوعي البشري. وبحسب إنجلس فإنّ كلّ مستوى حركة أعلى يحتوي بالضرورة ضمنيّاً على جميع المستويات الأبسط. وهذا يعني أنّ مستوى الحركة الميكانيكي لأيّ مادّة يمثّل مستوى الحدّ الأدنى المطلق الضروري الذي لا بدّ أنْ تتمتّع بها جميع المواد مهما كانت بسيطةً أو معقّدة؛ يكتب إنجلس:

«إنّ الحركة، أيّاً كانت، إنّما تنطوي على حركة ميكانيكيّة، على تحرُّك أجزاء كبيرة من المادة أو أصغر أجزائها. وإنّ معرفة هذه الحركات الميكانيكية هي المهمّة الأولى للعمل، ولكنها مهمّته الأولى فقط. بيد أنّ هذه الحركة الميكانيكية لا تستنفد الحركة عموماً. فالحركة ليست مجرَّد تبديل الموضِع المكانيّ. إذْ إنها أيضاً، في الميادين ما فوق الميكانيكية، تغييرٌ في الكيفيّة...» («ضدّ دوهرنغ» 1876–1878، ملحق: بصدد الفهم «الميكانيكي» للطبيعة... مختلف أشكال الحركة والعلوم التي تدرسها، ص419 من طبعة دار «الطليعة الجديدة»، دمشق 2023).

وسنرى فيما يلي أدناه، أنّ لهذه التعميمات الفلسفية الماركسيّة أهمّية كبرى في تقييمنا لموقف أينشتاين من مسألة الوجود المادّي للأثير، لكن من المفيد هنا أنْ نقتبس من إنجلس أيضاً إحدى الصياغات الكلاسيكية في هذا الصَّدد (من «ضدّ دوهرنغ»، الفصل 6، ص75 من طبعة الطليعة الجديدة 2023)، حيث كتب أنّ:

«العلاقة الفعلية بين المادة والحركة» كانت «غير واضحة على أية حال بالنسبة لجميع المادّيين السابقين. ومع ذلك فهذه المسألة بسيطة تماماً. الحركة هي أسلوب وجود المادة. ولم يحدث في أيّ مكان ولا في أي وقت، ولا يمكن أن يحدث، أنْ توجد مادةٌ بلا حركة. الحركة في الفضاء الكوني، والحركة الميكانيكية للكتل الأصغر على الأجرام السماوية المختلفة، واهتزاز الجزيئات كحرارة، أو كتيارات كهربائية أو مغناطيسية، والتفكُّك والتَـركُّب الكيميائيّان، والحياة العضوية - تلك هي أشكال الحركة التي توجد بها كلّ ذرة من المادة في العالَم في أيّ لحظة في شكل واحد أو عدّة أشكال في الوقت نفسه. إنّ أيّ سكون وأيّ توازن، يكون نسبياً فقط، وليس له معنى إلا في علاقته بهذا الشكل المعيَّن أو ذاك من الحركة. فمثلاً هذا الجسم أو ذاك يمكن أن يوجد على الأرض في حالة توازن ميكانيكي، أيْ في حالة سكون بالمعنى الميكانيكي، ولكن ذلك لا يمنع على الإطلاق أن يشترك الجسم المعيَّن في حركة الأرض وفي حركة مجموع النظام الشمسي، كما أنه لا يمنع أبداً أصغر جزيئاته الفيزيائية أنْ تحقّق الذبذبة التي تحدِّدُها درجةُ حرارته، ولا يمنع ذرات مادته من المرور بهذه العملية الكيماوية أو تلك. والمادة بلا حركة مستحيلة تماماً مثل الحركة بلا مادة. فالحركة إذن لا تُستَحدَث ولا تفنى، مثل المادة نفسها».

أثير لورنتز

في محاضرة لايدن، يتابع أينشتاين فيعتَبِرُ أنّ أهمَّ تقدُّمٍ تمّ إحرازه في النظرية الكهربائية بعد ماكسويل جاء على يدَي هندريك لورنتز «في تبسيطٍ رائع للمبادئ النظريّة» بحسب تعبير أينشتاين، حيث «انتزع لورنتز من الأثير «كمادّة غير ذرّية» كيفيّاتِه الميكانيكيّة، وانتزع من المادّة المكوَّنة من ذرّات كيفيّاتها الكهرومغناطيسية». وبتعبير آخر: افترض لورنتز أنّ الظواهر الكهرومغناطيسية كيفيّةٌ خاصّةٌ بالأثير حصراً سواء «الأثير الحُرّ» الموجود في «الفراغ الخالي» (بمعنى الخالي من المادّة الذرّية)، أو الأثير الموجود داخل الأجسام الماديّة المكوّنة من ذرّات، بينما افترض بالمقابل أنّ الدقائق المادّية للمادّة الذرّية هي فقط القادرة على تنفيذ الحركات (الميكانيكية)، وأنها إذا كانت لها خصائصُ كهربائية فإنها تقتصر فقط على امتلاكها شحنات كهربائية.

أثير أينشتاين

بعد ذلك يتابع أينشتاين: «يمكننا أن نقول مازحين إنّ الكيفية الميكانيكية الوحيدة المتبقّية التي تركها لورنتز للأثير هي فقط عدم قابليّته للحركة» (بمعنى سكونه). وعند هذا الموضع يضيف أينشتاين تصريحاً مهمّاً وكاشفاً لجانب فلسفيّ مهمّ في نسبيّته حيث يقول، «إنّ التغيير الذي أدخلَتْهُ النسبيّة الخاصّة على مفهوم الأثير يكمن برمَّتِهِ في أنّها انتزعتْ منه آخِرَ كيفيّاته الميكانيكية المتبقّيّة لديه؛ عدم قابليّته للحركة».

فماذا يعني هذا التصريح من أينشتاين؟ بما أنّه يقول هنا إنّ نسبيّته الخاصّة نزعت عن الأثير حتّى «السكون» الذي كان «آخر كيفية ميكانيكية متبقية» لهذه المادّة، فهذا يعني أنّ أينشتاين ترك الأثير بلا سكون ميكانيكيّ وبلا حركة ميكانيكيّة أيضاً! وهذا لا يمكن أن يعني سوى النتيجة التالية، لقد نزع أينشتاين عن الأثير «مادّيّته»، لأنّه، وكما رأينا بحسب إنجلس أعلاه، ليس هناك مادّةٌ في الطبيعة إلا وتتمتّع، على الأقلّ، بالمستوى الأدنى من مستويات الحركة المادّية، وهو المستوى الميكانيكي.

في الجزء الثاني من المقال سنتابع القراءة في محاضرة أينشتاين، وسنرى أنّه إذا كان يعترف بـوجود «أثير» ما، فإنّه قد حوَّله إلى «شبح» غير مادّي، وطابقَه في نهاية المطاف مع الإنشاء الرياضيّ الهندسيّ الذي ابتكره عالِم الرياضيات مينكوفسكي (أستاذ أينشتاين في الرياضيّات) ألا وهو «الزمكان» spacetime.

مصدر محاضرة أينشتاين:
“Ether and the theory of relativity” 1920, p. 161-182 of volume 7 (The Berlin Years: Writings, 1918-1921) of the collected papers of Albert Einstein (Princeton University Press) ed. 2002

(الجزء الثاني)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1130
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 12:01