أزمة اختزال المادّة في تصوّرات هندسية ورياضية
كريستيان جوس كريستيان جوس

أزمة اختزال المادّة في تصوّرات هندسية ورياضية

يُرجع الرأي المثالي السائد في العلوم الطبيعية المعاصرة بنيةَ وتطوّر كلّ المادة في الكون إلى لبنات بناء أولية نهائية، تقبع في «الفضاء الفارغ» أو «الخلاء». وتسعى هذه النظرة إلى البحث عن وحدة المادة في التجريدات الرياضية والبنى الهندسية، وربما تعود بواكير «المثالية الرياضية» إلى تقديس الفيثاغوريّين الإغريق للأعداد واعتبارها «جوهر العالَم»، مروراً بـ «زمكان» مينكوفسكي، وليس انتهاءً بالتنظيرات الأحدث على غرار «نظرية الأوتار الفائقة» حيث تُعتَبَر المادة «خيوط طاقة» مهتزّة في فضاءات رياضية متعددة الأبعاد.

تعريب: د. أسامة دليقان

من الذرائع الشائعة في الهجمات التي يشنّها المختصون بعلوم معيّنة كالفيزياء والكونيات على المدافعين عن المنهج الماركسي، الذريعة القائلة بأنّه إذا لم يكن هؤلاء الأخيرون مختصّين بالعلم المعنيّ فلا يحقّ لهم إبداء أيّ انتقادات، أو أنّ انتقاداتهم بأحسن الأحوال «فلسفية» مع تحميل هذه الصفة معنى ازدرائياً وكأنّ الفلسفة منفصلة عن باقي العلوم. ولكن لا شكّ بأنّ النقد المستند إلى الفلسفة العلمية يصبح أقوى حجّةً عندما يتعزّز بالاختصاص العلمي الدقيق. فيما يلي بعض من انتقادات الماركسيّ كريستيان جوس Christian Jooss، الذي هو بالوقت نفسه مختصّ بالفيزياء بوصفه بروفسوراً في جامعات غوتنغن وشتوتغارت بألمانيا (معهد فيزياء المواد) منذ 2008 وعالِم في معهد ماكس بلانك لأبحاث المعادن في شتوتغارت. والنص أدناه من كتابه «مقاربة ديالكتيكية للتنظيم الذاتي للمادّة وتطوّرِها المجهري والكبير» (ص13–15)، الصادر بالألمانية عام 2017 ثم بالإنكليزية عام 2020.

اتجاهان متصارعان في العلم الطبيعي الحديث

تمّ جمع كمية ضخمة من المعلومات التجريبية التي تظهر بأنّ الأشكال المختلفة من المادة تكوّن منظومةً من المستويات البنيويّة تبنى بعضها على بعض وتتفاعل فيما بينها في تطوّرها، مع مدروجات تراوح ما بين أطوال أصغر من فيمتومتر (10 بالأس سالب 15، مثل نصف القطر التقليدي للإلكترون) إلى ما فوق مليارات من السنوات الضوئية (10 بالأس موجب 25، مثل حجم «الجدار العظيم» للعناقيد المجرّية الفائقة).
كما وتجري حركاتها وتحولاتها وتطوراتها على مدروجات زمنية ما بين أقصر من فمتوثانية (10 بالأس سالب 15 من الثانية، كما في انتقالات الإلكترون) إلى أحقاب أطول من 10 مليارات سنة (أكثر من 10 بالأس 18 كما في عمليّات التطوّر التدريجي للمجرّات).
ولطالما كانت مسألة التأويل النظري لهذه البنى المادية وطبيعة ومَنشأ تطوّرها، موضوعاً لجدال ونزاع علميّ واجتماعي محتدم.
من خلال العديد من النظريات والآراء، هناك نظرتان متضادّتان: النظرة المادية الديالكتيكية، والتي وفقاً لها توجد المادة بشكلٍ موضوعي، مستقلّ عن وعينا، وتخضع بحد ذاتها إلى تطوّر لا نهائي يشمل جميع مستويات بنية المادة. وعند كل مستوى بنيويّ، ينتج التطوّر خصائص جديدة نوعياً وأنماطاً جديدة نوعياً من الحركة، يمكن بحثها من خلال الرصد والتجريب والفهم النظري عبر العمل العلمي.
بالمقابل، هناك النظرة المثالية السائدة اجتماعياً اليوم، وهي تمثّل نكوصاً تاريخياً، ووفقاً لها يمكن إرجاع المادة إلى الهندسة (بالمعنى الرياضي)، وإلى مبادئ وأفكار، وإلى «صيغة رياضية للعالَم»، تقف فوق المادة. ووفقاً لهذه النظرة، نشأت المادة من لا شيء، في حدث «الانفجار العظيم» وفي سلسلة خطّية من التطور، وسوف تنتهي أخيراً بالتدريج في موت حراري، إلا إذا حدث انفجار عظيم جديد يجعلها تواصل تطوّرها. إنّ مثل هذه الفرضيات منفصلة عن أية ممارسة تجريبية علمية؛ ولا تستند سوى على الفصل بين النظرية والتجربة.

هندسة وصيغ رياضية بدلاً للمادة

إنّ اختزال خواص المادّة إلى تصوّر هندسي مجرَّد geometrization بوساطة فضاءات منحنية هو أيضاً أحد مكوّنات التأويلات الموافقة لنظريات أينشتاين النسبية عن الجاذبية والحركة السريعة. في كتابه «نسيج الكون» يقدّم برايان غرين (وهو نصير لنظرية الأوتار الفائقة superstrings) أفكاراً تعبّر عن القطب المثالي واسع الانتشار اليوم في النظريات عن بنية المادة:
«طبقاً لنظرية الأوتار الفائقة، تتألف كلّ دقيقة من دقائق المادة من وتر طاقة صغير جداً، أصغر بحوالي 100 مليار مرة من نواة ذرة مفردة. وتماماً مثلما أنّ وتر آلة الكمان يمكن أن يتخذ أنماط اهتزاز مختلفة تتوافق كلٌّ منها مع لحن موسيقي مختلف، كذلك فإنّ خيوط نظرية الأوتار الفائقة تملك أنماطاً اهتزازيةً مختلفة. ولكن الاهتزازات في هذه الأخيرة لا تتوافق مع ألحان مختلفة بل بالأحرى، وكما تقول النظرية على نحو مثير الاهتمام، مع خصائص مختلفة لدقائق المادة». (غرين، 2004، ص33).
إنّ النظرية القائلة بمنشأ المادة من «أوتار طاقة» غير مادية، لم تنجم في الحقيقة عن مشاهدات تجريبية وتعميماتها النظرية عبر الاستقراء. بل نشأت نظرية الأوتار الفائقة بدلاً من ذلك على نحو استنباطيّ من إنشاءٍ رياضيّ جَمَعَ بين نظريَّتَين في البحث عن «صيغة للعالَم»:
«كما سنرى، فإنّ دمج النسبية العامة والميكانيك الكوانتي كما تقترح نظرية الأوتار الفائقة، يكون له معنى رياضيّ فقط إذا قمنا بفرض ثورة أخرى على فكرتنا عن الزمكان spacetime. فبدلاً من الأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الزماني الواحد، والتي نجدها في تجربتنا اليومية، فإنّ نظرية الأوتار الفائقة تطالب بتسعة أبعاد مكانية وبعد زماني واحد. وفي إصدار أكثر حيوية من نظرية الأوتار الفائقة، المعروف بالنظرية M، يكون هناك حتى عشرة أبعاد مكانية وبعد زماني- ركيزة كونية مع أحد عشر بعداً زمكانياً بالإجمال... والمكان المعطى بواسطة الأبعاد المكانية الإضافية الكبيرة يمكن له أن يفتح حتى إمكانات مميّزة أكثر: عوالِم مجاورة أخرى، ليست مجاورة بالمفهوم المكاني الاعتيادي، بل مجاورة في عَوالِم الأبعاد الإضافية، والتي لم نلاحظ منها أيّ شيء حتى الآن» (غرين، 2004، ص34-35).
إنّ إحلال هندسة الفضاءات الخاوية المنحنية بدلاً من المادّة، يرتبط منهجياً وإيديولوجياً بآراء المثاليّ العتيق أفلاطون، الذي رفض الفرضية الذرّية المادّية واستبدل المادّة بأن أحلّ مكانَها مجسّمات هندسية مثالية. واليوم يلعب الاختزال الهندسي للمادة في الميكروكوزم microcosm [الكون الصغير حيث عالَم الجزيئات والذرات والدقائق تحت الذرية- المعرِّب] دوراً نظرياً أساسياً في كونيّات الانفجار العظيم big bang cosmology فالانفجار العظيم لا يمكن إجراء حسابات بشأنه سوى عبر تصوّر هندسيّ للجاذبية.
وتقول «نظرية الانفجار الكبير» إنه قبل الانفجار الكبير لم تكن توجد مادّة ولا مكان ولا زمان، وأنه بالرغم من ذلك كانت توجد «قوانين طبيعيّة» بشكل صيغة (رياضية) للعالَم و«شروط ابتدائية»، والتي يفترَض أنه بزغ منها العالَم الواقعي المُنطَوي [المنطوي manifold مصطلح رياضي هندسي لا يقتصر على سطوح أو مجسمات واقعية ثلاثية الأبعاد بل ويحتمل أشكالاً خيالية بأبعاد أكثر من ثلاثة- المعرِّب]، بكل أشكاله المادية المتنوعة، خلال 14 مليار سنة مضت. هكذا يتم نسب أصل كلّ المادّة إلى فكرة مطلقة تقف فوق المادة. إنّ المعالجة المثالية للاكتشافات أدت إلى أزمة عميقة في النظرة الفيزيائية للعالَم ككل، على الرغم من كلّ التقدم المحرَز في المعرفة من حيث التفاصيل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1095
آخر تعديل على الإثنين, 07 تشرين2/نوفمبر 2022 05:36