غرامشي عن «المُستَضعَفين» وضرورة تنظيمهم سياسياً
لطالما كان من الصعب صياغة تعريف دقيق لمقولة «المُستَضعَفين» كما استخدمها غرامشي، وذلك لأنهم برأيه لا يشكّلون كياناً واحداً وليسوا كتلةً متجانسة، ولهذا كان يشير إليهم دوماً بصيغة الجمع، أو عندما يستعمل الكلمة كصفة فإنّ الموصوف بها حسب كتاباته ليس بالضرورة «طبقة» بل كانت أحياناً «مجموعة اجتماعية». ومن بين دفاتر سجن غرامشي يحتلّ الدفتر 25 أهمية خاصة، لأنّه جمع وطوّر فيه مجموعة ملحوظات تحت عنوانٍ عام «على هوامش التاريخ (تاريخ المجموعات الاجتماعية المُستَضعَفة)» تتناول المادة التالية أبرز ما ورد عن الموضوع في مقالٍ لأحد أهمّ الباحثين والمترجمين لإرث غرامشي، وهو البروفسور الراحل جوزيف بوتيجيغ، نُشِرَ في «مجلة غرامشي الدولية» (المجلد3، العدد1، 2018).
لا بدّ في البداية من تمهيدٍ حول التعريب الذي نقترحه للمصطلح، حيث إنّ الكلمة بالإيطالية لدى غرامشي هي subalterno (وما شابهها من مشتقات)، وتترجم بالإنكليزية إلى subaltern والتي من معانيها «تابع» أو «ثانوي» أو «ذو رتبة أدنى» (مرؤوس) في منظومة عسكرية أو اجتماعية أو هرميّة ما، وذلك في مقابل المجموعات أو الطبقات «السائدة» أو «الحاكمة»... وربما تكون الترجمة الدارجة «المجموعات التابعة» أقرب إلى الحرفية بهذا المعنى، ولكنها قد تخلق التباسات وعدم ملاءمة، وخاصة في ترجمة كلمة الجمع subalterns إلى «التابعين»، في حين أنّ «المستضعَفين» والتي لا نزعم أنها مُرضية بشكلٍ كامل أيضاً، لكنها تمنع الالتباس وتميّز المصطلح في سياق النص، والأهم ربما، تَبْيِيْء (من بيئة) المصطلح، بشحنة تاريخية ذات صلة بتراث منطقتنا وشرقنا، والكلمة تحمل شيئاً من نعوتٍ ذات صلة (المُضطَهَدون/ المظلومون/ المُستغَلّون/ المُهمّشون/ المنهوبون...إلخ)، والذين رغم «استضعافِهم» – أي رغم النظر إليهم على أنّهم ضعفاء– ولكنّهم ليسوا بالضرورة «ضعفاء» دوماً أو أبداً، بل يحملون الطاقة الكامنة على الفعل والتغيير والتحرّر من ضعفهم وتبعيّتَهم، ولكن بشرط أساسي: أن يَعُوا مصالحهم الجذرية ويتنظّموا في النضال لتحقيقها.
خصائص «المُستَضعَفين»
يقول بوتيجيغ في مقالِه إنّ غرامشي أدركَ أهمية دراسة الخصائص المحدِّدَة لـ«المُستَضعَفيّة» subalternity (حال المستضعَفين) داخل النظام السياسي والاجتماعي. و«المستَضعَفون» فئةٌ تشمل العديد من مكونات المجتمع الأخرى إلى جانب الطبقة العاملة «البروليتاريا». والسمة المميزة لهم انفصالُهم عن بعضهم البعض أو تفكّكهم ووجود مجموعات مستَضعَفة منفصلة عن بعضها ومختلفة عن بعضها تماماً، ففي حين قد يكون بعضها قد حقق مستوى مهمّاً من التنظيم، يفتقر بعضها الآخر إلى التماسك، وداخل المجموعات نفسها ثمة درجات مختلفة من التبعية والتهميش.
ويشير غرامشي إلى أنّ إلقاء نظرةٍ على الثورات السابقة من شأنه أن يكشف لنا وجود «فئات مُستَضعَفَة مختلفة... مرتّبة وفقاً لوضعها الاقتصادي وتجانسها». وكان تفكك طبقات المجتمع المُستَضعَفة الشغلَ الشاغل لغرامشي منذ أيامه كصحفي وقائد حزبي. مثلاً اهتم غرامشي أثناء دراسته التاريخ الإيطالي بـ«كتلة الفلاحين الكبيرة المتفككة وغير المتبلورة».
ويؤدي الافتقار إلى التماسك والتنظيم إلى جعل المُستَضعَفين عاجزين سياسياً، وكما يقول غرامشي «غير قادرين على تقديم تعبير مركزي عن تطلعاتهم واحتياجاتهم» مما يجعل ثوراتهم محكومة بالفشل. وكتب غرامشي في الكرّاس 25 من دفاتر سجنه:
«إنّ تاريخ الفئات الاجتماعية المُستَضعَفة هو بالضرورة مُشظَّىً ونُوَبِيّ. ومما لا شكّ فيه بأنه توجد في النشاط التاريخي لهذه الجماعات نزعةٌ نحو الاتحاد ولو لمراحل مؤقتة، لكنَّ هذا الاتجاه لا ينفكّ يتعرّضُ إلى مقاطَعَتِه باستمرار من خلال مبادرة الجماعات السّائدة، وحتى عندما تتمرّد وتكون في حالة انتفاض، تخضع الجماعات المُستَضعَفة دوماً إلى مبادرة الجماعات السائدة...».
عفوية المُستَضعَفين ومؤامرات الرجعيّين
غالباً ما يتخذ التعبير الخارجي لاستياء المُستَضعَفين، من استغلالهم وإفقارهم وتهميشهم، شكلَ تمرُّدٍ عفوي. العفويّة، في حدّ ذاتها، ليست فقط غير فعالة، بل وتأتي بنتائج عكسية. ويشرح غرامشي الآثار السلبية لـ«ما يسمّى الحركات العفوية» في ملحوظة له حول «العفوية والقيادة الواعية» (الدفتر3/ م48):
«يكاد يكون الحال دوماً أنَّ الحركة (العفوية) للطبقات المُستَضعَفة تَجري ملاقاتُها بحركة رجعيّة من الجناح اليمينيّ للطبقة السائدة، لأسبابٍ مصاحِبة: فالأزمة الاقتصادية، مثلاً، تُنتِج من ناحيةٍ السخطَ بين الطبقات المُستَضعَفة والحركات الجماهيرية العفوية، وتُنتِجُ من ناحية أخرى مؤامراتِ الجماعات الرجعيّة التي تستغلُّ الضَّعف الموضوعي للحكومة في محاولةِ الانقلاب على الدولة».
ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني أنه يجب تجاهل المشاعر العفوية للطبقات المُستَضعَفة، بل يؤكّد غرامشي بأنّ العفوية بحاجةٍ إلى تسخيرها ودمجها مع قيادةٍ واعية. وهذه هي مهمة الحزب السياسيّ الذي يناضل من أجل الهيمنة في صفّ المُستَضعَفين، الحزب الذي يهدف إلى وحدة النظرية والممارسة. ويضرب غرامشي مثالاً (في الدفتر3/م48) كيف تم التعامل مع العفوية من قِبَل حركة المجالس العمّالية في تورين الإيطالية (مجموعة أورديني نوفو) حيث: «تمّ تعليمها وتوجيهُها، وتطهيرها من كل ما هو دخيل قد يلوّثها، وذلك لتوحيدها بالنظرية الحديثة [الماركسية] ولكن بطريقة حيّة وفعالة تاريخياً». ويواصل غرامشي شرحه بأنّ هذه الوحدة بين العفوية والقيادة الواعية: «هو بالضبط الفعل السياسي الحقيقي للطبقات المُستَضعَفة، بقدر ما هي سياسةٌ جماهيرية وليس مجرَّد مغامرةٍ تقوم بها جماعاتٌ تتوسّل بالجماهير».
«الطبقة المُبدِعة البَطَلة» وتحالفاتُها
يؤكّد غرامشي على أنّ تبعيّة المُستَضعَفين كأغلبية تجاه الأقلية لا يمكن إنهاؤها طالما بقيت «المجموعات المُستَضعَفة تخضع لمبادرة المجموعات السائدة» (الدفتر 25/م2). ولذلك لا بدّ من أن يتّخذوا موقفهم المستقل ذاتياً، الذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر عملية معقّدة من النضال الطويل. ويتابع بوتيجيغ شارحاً غرامشي، بأنّه من أجل الانخراط في نضالٍ ناجح ضد هيكل السلطة القائم، من الضروري أولاً وقبل كل شيء، أنْ نفهم بدقّة ما الذي يجعل السلطة تتكيّف وتستمرّ؛ إنّ الطبقات السائدة في الدول الحديثة لا تستطيع الاستمرار قابضةً على السلطة فقط بسبب سيطرتها على أجهزة القسر والإكراه الحكومية... إذ لا بدّ لها أيضاً من مجموعة هائلة من الآليات المؤسساتية والثقافية التي تمكّنها بشكلٍ مباشر وغير مباشر من ترويج رؤيتها للعالَم وغرس قيمها وتشكيل الرأي العام، وهو ما يسميه غرامشي «الهيكل الإيديولوجي للطبقة الحاكمة» ويقول إنّ «النضال لكي يكون فعالاً، يجب توجيهُه ضد تركيبة السلطة التي تؤبِّدُ المُستَضعَفيّةَ، ضدّ هذه (الجبهة) الإيديولوجية» ويشير في هذا السياق إلى أهمّية «حرب المواقع»، ويطرح السؤال التالي: «ما الذي يمكن لطبقة إبداعية أنْ تطرحَهُ في مواجهة المجموعة الهائلة من خنادق وتحصينات الطبقة الحاكمة؟» ويجيب غرامشي (الدفتر 3/م49): «روح الاقتحام- الاكتساب التدريجي للوعي الذاتي بالهوية التاريخية- روح الاقتحام التي يجب أنْ تهدف إلى توسيع نفسها من الطبقة البطلة [أو القائدة] إلى الطبقات التي تمثّل حلفاءَها المحتملين: كلّ هذا يتطلّب عملاً إيديولوجياً معقداً».
إنّ «الطبقة المُبدِعة والبطلة» التي يشير إليها غرامشي في هذا المقطع هي الطبقة العاملة الصناعية المنظَّمة، وهي بحدّ ذاتها مجموعةٌ مُستَضعَفة أيضاً ولكنها انبثقت عن البنية الأكثر تقدماً للإنتاج الرأسمالي.
كما أشار ماركس وإنجلس في البيان الشيوعي، فإنَّ أحد الآثار غير المقصودة للحداثة الصناعية والمنافسة الرأسمالية هو تكثيف إقامة الروابط بين العمال. وهكذا فإنّ أفضل حزب عمّالي تنظيماً، والذي حقّق أعلى درجة من الاستقلالية عن المجموعات الاجتماعية السائدة، يكون في أفضل موقع لتولّي الدور القيادي في النضال من أجل الهيمنة hegemony. وهو نوع الحزب الذي تعهَّد غرامشي ببنائه، بما في ذلك عبر نضاله كقيادي في الحزب الشيوعي الإيطالي.
الثورة ليست تلقائية
يؤكّد غرامشي على درس مهم بمثابة تعبير موجزٍ عن البرنامج السياسي الذي شكل عمل حياته، فيكتب: «إنّ كل ثورة قامت، قد سبقها عملٌ مكثف من النقد ونشر الثقافة والأفكار بين جماهير الناس، الذين يمانعون ذلك في البداية، ولا يفكرون سوى بحل مشكلاتهم الاقتصادية والسياسية المباشرة لأنفسهم فقط، والذين ليست لديهم روابط تضامن مع الآخرين الواقعين في الحالة نفسها». ولا يتعب غرامشي من التكرار بأنّ الثورات لا تحدث بشكلٍ عفوي، بل يتم إعدادها وصنعها الواعي من بشر اكتسبوا وعياً عميقاً بقيمتها وعملوا بجدّ في التحول الثقافي، نجحوا في تنظيم إخوانهم من البشر وغرس الأفكار والقيم نفسها فيهم حتى يتمكنوا من تشييد حضارة جديدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1057