كيف تستعيدُ الأوطان عقولَها المهاجِرة؟ (نجاحُ الصين نموذجاً)
تمتعت الصين بتدفق صافٍ للمواهب العلمية منذ العام 2014، على عكس اتجاه العقود الأربعة السابقة (التي شهدت عدداً من الباحثين المغادرين أكبر من عدد الواصلين) وفقاً لتحليل أدرجته مجلة الطبيعة البريطانية، وشمل نصف مليون باحث في 100 مؤسسة رائدة. ووجد البحث الذي أجرته مؤسسة League of Scholars (وهي شركة بيانات أكاديمية وتوظيف في أستراليا) أن أكثر من 10% من الأكاديميين في الجامعات الصينية، واعتباراً من آذار 2021، وصلوا من الخارج في السنوات الثلاث الماضية، وهي نسبة قريبة من ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي البالغ 3,7% والكثير منهم صينيّون– وفقاً لمقال نشرته مجلة الطبيعة Nature (في 26 أيار 2021) والذي ننشر أدناه ترجمةً لأهمّ ما ورد فيه .
تعريب: د. أسامة دليقان
العِلم الصيني يتطور، ويبدو أن التوترات مع الولايات المتحدة، جنباً إلى جنب مع الجائحة الحالية، ستؤدي إلى تسريع الدافع نحو الاكتفاء الذاتي البحثي للصين وإعادة مواهبها إلى وطنهم. تقول ماريجك فان دير ويندي، أستاذة التعليم العالي في جامعة أوتريخت في هولندا، إن الزيادة في عدد الطلاب والباحثين العائدين إلى الصين من الغرب تسارعت بشكل كبير في عام 2020.
وتتوقع فان دير ويندي، التي شاركت في تحرير كتاب عن إستراتيجية عولمة التعليم العالي في الصين («الصين وأوروبا على طريق الحرير الجديد: ربط الجامعات عبر أوراسيا»، مطبعة جامعة أكسفورد، 2020): إن استعادة الصين لمزيد من علمائها سيسمح لها بالاستفادة من الاستثمارات المستمرة والمنهجية في التعليم العالي والبحث، ولا سيّما أن الصين بلدٌ يخرج من العواقب الاقتصادية للوباء بشكل أسرع بكثير من أوروبا.
مؤشرات التفوُّق الصيني
مجموع الباحثين الصينيين هو نحو 1,12 مليون باحث بدوام كامل، وهو رقمٌ قريب من نظيره لدى بريطانيا ما بعد بريكسِت (1,13 مليون)، ويتجاوز نظيره في الولايات المتحدة (1,10 مليون)، وذلك وفقاً لأرقام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لـعام 2020.
ووفق قاعدة بيانات Scopus الخاصة بـمؤسسة Elsevier تفوقت الصين على الولايات المتحدة في ناتج البحث العلمي عام 2016. وفي عدة مجالات، بما فيها التكنولوجيا النانوية والحيوية والكيمياء، تمتلك الصين أكثر من 20% من المؤسسات على قائمة أفضل 50 مؤسسة في التصنيف الأكاديمي للموضوعات الأكاديمية للجامعات العالمية. وتقول فان دير ويندي: «لقد انتقلت الصين بسرعة كبيرة إلى قوة تكنولوجية وعلمية قوية جداً».
وفي مؤشر مجلة الطبيعة، تمتلك الصين أعلى حصة في علم الكيمياء، وتأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في العلوم الفيزيائية وعلوم الحياة وعلوم الأرض والبيئة. وكان متوسط الزيادة السنوية في الحصة المعدَّلة البالغة 13,1% هو الأكبر بين جميع الدول العلمية الرائدة من عام 2016 إلى عام 2019، ولكنه تباطأ بشكل كبير في عام 2020 إلى 1,1%. لكن قد يكون الدفع الحكومي الصيني لصالح النشر في المجلات الصينية أحد العوامل المساهمة في النمو الصفري لمنشورات الصين التعاونية مع الولايات المتحدة عام 2020.
العلماء العائدون يعززون من إنتاج البلاد البحثي. ففي المتوسط، تَضاعَف معدل منشوراتهم الإجمالية تقريباً عند عودتهم، وذلك وفقاً لدراسة أجريت عام 2020 (جاو وزملاؤه). ويقول المؤلف المشارك جيانغ لي (عالم القياس العلمي في جامعة نانجينغ الصينية): إنّ المنافسة في الجامعات الصينية تجعل العائدين يعملون بجدّ لنشر الأبحاث.
الاهتمام بالجانب النوعي
ووجدت الدراسة أيضاً أنه بالنسبة للنشر في أهم المجلات المرموقة («الطبيعة» و«العلوم» و«الخلية» و«وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم») فإنّ معدّل النشر (عدد الأبحاث المنشورة في واحدة الزمن) للباحثين الصينيين الذي عادوا، هو أقل بنحو النصف مقارنة مع نظرائهم الصينيّين الذين بقوا في الخارج. ولكنّ لي يعزو هذا جزئياً إلى أنّ نظام النشر الصيني يعتني بالنوعية وجودة الإنتاج، حيث إنّ الباحثين لو ركّزوا بالمقابل على كمية الإنتاج فقط، فإنّ ذلك قد يؤدي إلى عدم كفاية الوقت أو الموارد لإجراء تلك الأنواع من التجارب التفصيلية المطوَّلة التي يمكن أن تؤدي إلى نشرٍ ناجح.
الاهتمام بالحوافز الأكاديمية
تبذل الصين جهوداً منسَّقة لجذب المواهب العلمية. على الرغم من أن الأستاذ الجامعي العادي يكسب أقل من 50 ألف دولار أمريكي سنوياً، إلا أن الجامعات الصينية تقدّم حوافز مثل: بدل السكن ومساعدة رعاية الأطفال، مما يجعل المناصب في المؤسسات الأكاديمية الصينية مطلوبةً ومرغوبة للغاية، كما يقول لي.
تأثير التوتر الجيوسياسي
ثمّة مشكلاتٌ تواجه الدور القيّم الذي لعبه العلماء في بناء التعاون الدولي. إذْ يتجنبُ العلماء في الولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا حالياً إقامةَ شراكاتٍ مع نظرائهم الصينيين خوفاً من التورط في التوترات الجيوسياسية، فضلاً عن اللوائح الجديدة المرهقة التي تفرضها الولايات المتحدة وأستراليا بشأن الكشف عن العلاقات البحثية الأجنبية.
وأظهرت العلاقة التعاونية بين الولايات المتحدة والصين عام 2020 نمواً صفرياً وفق مؤشر مجلة الطبيعة Nature، بعد أن كان النمو الوسطي السنوي لها يمثل أقوى علاقات الصين في هذا المجال، بأكثر من 10% سنوياً، بين 2015 و2019.
وقال نيان كاي ليو، مدير مركز الجامعات ذات المستوى العالمي في جامعة شنغهاي جياو تونغ، في تشرين الثاني 2020 أثناء الإطلاق الإلكتروني لكتاب «الصين وأوروبا على طريق الحرير الجديد»: «إنه وقت صعب للغاية بالنسبة للتعاون العالمي... وسيكون للتوترات الجيوسياسية تأثيرٌ على المديَين المتوسط والطويل».
ومن نتائج التوتر في مسار التعاون بين الولايات المتحدة والصين أنّ معاهد الصحة الوطنية الأمريكية وفي سياق «التحقيقات» التي أجرتها حول «الدعم المالي الأجنبي غير المعلن» تسبّبت بفصل أو استقالة عشرات الباحثين من الجامعات الأمريكية عام 2020، ومعظمهم من الصين. وتسعى بريطانيا واليابان وأستراليا أيضاً إلى تعزيز «الحماية الأمنية» في علاقاتها البحثية الدولية.
ويتوقع ليو حدوث انزياح مستمر في وجهة العلاقات التعاونية الصينية من الولايات المتحدة باتجاه أوروبا. لكن ماريجك فان دير ويندي، خبيرة الحوكمة في جامعة أوتريخت في هولندا، تقول: إن عقوبات الاتحاد الأوروبي والصين الأخيرة على الزيارات التي يشارك فيها بعض المسؤولين والأكاديميين هي تطوُّرٌ مثيرٌ للقلق. وتقول: «إن تحدياتنا الرئيسة تتطلب تعاوناً عالمياً... يجب على الدول أن تدرك أنها بمجرد أن تقطعَ تعاون الباحثين، فإنها تُطلق النار على أقدامها هي بالذات، بغضّ النظر عن حجمها».
«الحزام والطريق» يدفع العلم قدماً
دفعت خطة عمل التعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار لمبادرة الحزام والطريق، التي أعلنها الرئيس شي جين بينغ في عام 2017، إلى مزيد من التعاون مع الدول الأعضاء في مجالات تشمل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا النانو والحوسبة الكمومية. وتهدف إلى تدريب 5000 عالم ومهندس ومدير أجنبي، وإقامة مبادرات مثل المختبرات المشتركة وحدائق العلوم ونقل التكنولوجيا. ودخلَ ما لا يقلّ عن 10000 طالب سنوياً إلى الصين عبر المِنح المتعلقة بمبادرة الحزام والطريق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1022