فيغوتسكي مؤسِّساً لمنهج عِلم النفس الماركسي- اللينيني (2)
ليف فيغو تسكي ليف فيغو تسكي

فيغوتسكي مؤسِّساً لمنهج عِلم النفس الماركسي- اللينيني (2)

«يصبح البحث عن المنهج أحد أهم مشكلات مشروع فهم الأشكال البشرية الفريدة للنشاط النفسي. بهذه الحالة، يَكُون المنهجُ بالوقت نفسه الشرطَ المسبق والناتجَ، أداةَ الدراسة ونتيجتَها»– فيغوتسكي. نتابع هنا ما كتبه هذا العالِم السوفييتي عن مبادئ منهجه الثلاثة. ثم نختم بفقرة عن نظريته حول «نطاق التطوّر القريب» والتي نعتقد بأنّ ابتكارَهُ لها ينطوي على تأثّره بنظريات لينين في السياسة النضالية.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

ثانياً: التفسير
مقابل التوصيف (تتمة)

في دراستنا لتطوِّر الكلام، أكَّدنا على أهمية التمييز بين أوجه التشابه الظاهرية والنشوئية. بجوانبه الخارجية الوصفية، يكُونُ المظهرُ الأوّل للكلام لدى الطفل بين 1,5 إلى 2 عاماً من العمر، شبيهاً بكلام البالغين. وعلى أساس هذا التشابه، لم ينجُ حتّى باحثون جادّون- مثل: ستيرن- من الوقوع في استنتاجٍ مفادُه: أنّ الطفلَ بعمر 18 شهراً يدرك سلفاً العلاقة بين الإشارة والمعنى. وبعبارة أخرى، ارتكب ستيرن خطأ الجَمع معاً، وبتصنيفٍ واحد، بين ظواهرَ لا تشترك بشيء إطلاقاً من وجهة النظر التطوّرية. ومن ناحية أخرى، فإنّ الكلام المتمركز حول الذات egocentric speech– والذي يختلف بتمظهراتِهِ الخارجية عن الكلام الداخلي internal speech بنواحٍ أساسية– يجب أنْ يُضَمّ في تصنيفٍ واحد مع الكلام الداخلي من وجهة النظر التطوّرية...
لقد قلتُ: إنّ النّهج المعتمد على النمط الظاهري يصنِّفُ العمليات وفقاً لأوجه التشابه الخارجية. وفي الحقيقة، سبق لماركس أنْ علَّقَ على نَهج النمط الظاهري بشكلٍ أكثر عمومية، عندما ذكر أنه «لو كان جوهرُ الأشياء مطابقاً لشكل تَمَظْهُراتِها الخارجية، لما كان هناك ضرورةٌ لأيّ عِلم».. فلو كانَ النمطُ الظاهريُّ والنمطُ النشوئيُّ (الجيني) لكلّ شيءٍ متكافئَين (بمعنى أنه لو تم التعبير عن المبادئ الحقيقية لبنائه وتشغيله من خلال مظهرِه الخارجي)، لكانت التجربةُ اليومية كافيةً تماماً لتحلّ مَحلَّ التحليل العِلميّ، ولكانَ كلُّ ما نراه هو موضوعُ البحث لمعرفتنا العلمية.
يعلّمنا علم النفس بكلِّ خطوة، أنه رغم إمكانية وجود نوعين من النشاط لهما التَّمَظْهُر الخارجيُّ نفسُه، لكنّهما قد يملكان، من حيث الأصل أو الجوهر، طبيعتَين مختلفتَين اختلافاً عميقاً. بمثل هذه الحالات، تكون وسائل التحليل العلمي الخاصة ضروريةً للكشف عن الاختلافات الداخلية التي تخفيها أوجهُ التشابه الخارجية. مهمَّةُ التحليل أنْ يكشف عن هذه العلاقات، ويختلفُ التحليل العلمي الحقيقي اختلافاً جذرياً عن التحليل الذاتي والاستبطاني، والذي لا يمكن بطبيعته أن يأملَ بتجاوز التوصيف المحض. يسعى نوعُ التحليل الموضوعي الذي ندافعُ عنه إلى الكشف عن جوهر الظواهر النفسية بدلاً من خصائصها المُتَصَوَّرة.
مثلاً: لسنا مهتمِّين بتوصيف التجربة المباشرة التي يثيرُها فينا ضوءٌ وامضٌ كما يكشفها لنا التحليلُ الاستبطاني؛ وبدلاً من ذلك، نسعى إلى فهم الروابط الحقيقية بين المنبهات الخارجية والاستجابات الداخلية التي تكمن وراء الشكل الأعلى للسلوك الذي تمنحُهُ التوصيفات الاستبطانيةُ اسماً. وبالتالي، فإنّ التحليل السيكولوجي، بالمعنى الذي نفهمُه نحن، يرفض الأوصاف الاسميّة، ويسعى بدلاً من ذلك إلى تحديد العلاقات السببية الديناميكية. ومع ذلك، فإنّ مثل هذا التفسير سيكون أيضاً مستحيلاً إذا تجاهلنا المظاهر الخارجية للأشياء. بحكم الضرورة، يتضمن التحليل الموضوعي تفسيراً علمياً لكلٍّ من المظاهر الخارجية، والعملية قيد الدراسة. ولا يقتصر التحليل على منظورٍ تطوّري، إنه لا ينكر تفسير خصوصيات النمط الظاهري الحالية، بل يُخضِعُها لاكتشاف أصلها ومَنشَئِها الفعليّ.

ثالثاً: مشكلة «السلوك الأحفوريّ»

يعتمد المبدأ الثالث الذي يقوم عليه منهجنا التحليلي على حقيقة أننا في علم النفس غالباً ما نصادف عملياتٍ ماتَتْ بالفعل؛ مَرَّتْ بمرحلةٍ طويلة جداً من التطور التاريخي وأصبحتْ «أُحفُوريّة»/«مُتحجِّرة». نعثرُ على هذه الأشكال الأحفوريّة من السلوك بسهولة فيما يسمى بالعمليات النفسية الأوتوماتيكية أو الآلية، والتي بسبب أصولها القديمة، تتكرَّر الآن للمرة المليون وأصبحت آليّة. لقد فقدتْ مظهرَها الأصليّ، ولا يخبرُنا مظهرُها الخارجي بأيّ شيء على الإطلاق عن طبيعتها الداخلية. إنّ طابعها التلقائي يَخلقُ صعوباتٍ كبيرةً للتحليل السيكولوجي.
ونَجِدُ في عمليّتَي (الانتباه الإراديّ) و(الانتباه اللّا- إراديّ) مثالاً أولياً يوضّح كيف تَكتسبُ عمليّتان مختلفتان جوهرياً تشابهاً خارجياً نتيجةً لهذه الأتمتة. من الناحية التطوّرية، تختلف هاتان العمليتان اختلافاً عميقاً جداً فيما بينهما. ولكن في علم النفس التجريبي، يتمُّ التسليمُ بتشابههما وكأنه أمرٌ واقع، كما صاغ تيتشنر هذه الفكرة، والتسليم بأنّ الانتباه الإراديّ، بمجرّد رسوخه، يعملُ تماماً مثل الانتباه اللا- إرادي. ووفق مصطلحات تيتشنر، يتحوَّلُ الانتباهُ «الثانوي» باستمرار إلى انتباهٍ «أوّلي». وبعد وصفه ومقارنته لهما كمرحلتَين يقول تيتشنر «توجد، مع ذلك، مرحلة ثالثة في تطور الانتباه، وهي تكمن على الأقل في العودة إلى المرحلة الأولى». لكن المرحلة الأخيرة والأعلى في تطور أيّة عملية كانت، قد تُظهر تشابهاً ظاهرياً بحتاً مع المراحل البدئية أو الأوليّة، وإذا اتّبعْنا نهجَ النمط الظاهري، فمن المستحيل أنْ نميّز بين الأشكال الأعلى والأدنى لهذه العملية. إنّ الطريقة الوحيدة لدراسة هذه المرحلة الثالثة والأعلى في تطوّر الانتباه هي فهمُه بكل خصوصياته واختلافاته. وباختصار، نحتاج إلى فهم مَنشَئِهِ. ويترتب على ذلك أننا بحاجة إلى التركيز ليس على (ناتج) التطوّر بل على (العملية) نفسها التي يتم من خلالها نشوءُ ورسوخُ أَشكالٍ أعلى. وللقيام بذلك، غالباً ما يُضطر الباحثُ إلى تغيير الطابع التلقائي والآلي المتحجِّر للشكل الأعلى للسلوك وإعادتِه إلى مصدره، وذلك عبر القيام بتجارب. وهذا هو هدف التحليل الديناميكي.
إنّ الوظائف البدائية غير النشطة ليست كالبقايا الحيّة للتطور البيولوجي، بل هي البقايا الخاصة بالتطور التاريخي للسلوك. وبالتالي، فإنّ دراسة الوظائف البدائية يجب أنْ تكون نقطةَ الانطلاق لتطوير منظورٍ تاريخيّ في إجراء التجارب النفسية. وهنا يندمج الماضي والحاضر ويُنظر إلى الحاضر على ضوء التاريخ، ونجدُ أنفسَنا بالوقت نفسه على مستويَين: ما هو كائنٌ، وما كان. الشكل المتحجِّرُ هو نهاية الخيط الذي يربطُ الحاضرَ بالماضي، المراحلَ الأعلى من التطور بالمراحل الأولية.
إنّ مفهومَ علمِ نفسٍ مُستَندٍ إلى التاريخ، يُساءُ فَهمُهُ من جانب معظم الباحثين الذين يَدرسون نُموَّ الطفل. بالنسبة لهم، فإنَّ دراسة شيءٍ ما تاريخياً تعني، بالتعريف، دراسةَ بعض الأحداث الماضية. إنهم يتخيّلون بسذاجةٍ حاجزاً لا يمكن التغلُّب عليه بين الدراسة التاريخية ودراسة الأشكال السلوكية الحالية، في حين أنّ دراسةَ شيءٍ ما تاريخياً تعني دراستَه في عملية التغيير؛ هذا هو المطلبُ الأساسي للمنهج الديالكتيكيّ. إنّ تضمينَ البحثِ عمليةَ تطوِّر شيءٍ ما بجميع أطواره وتغيُّراته– من الولادة إلى الموت– يعني أساساً اكتشافَ طبيعتِه، جوهرِه، لأنّه «فقط في الحركة يُظهِر الجُسم ماهيَّتَهُ» وبالتالي ليست الدراسةُ التاريخية للسلوك جانباً مساعداً للدراسة النظرية، بل إنها تشكل أساسَها بالذات. وكما قال ب. ب. بلونسكي P. P. Blonsky «لا يمكنُ فهمُ السلوك إلا بوصفِه تاريخَ السلوك».

«نطاق التطور القريب» واللّينينيّة

ابتكر فيغو تسكي نظريّةَ «نطاق التطوّر القريب» وعرّفه بأنّه «المسافة بين مستوى التطور القائم كواقع حالي كما يحدده حلُّ المشكلات بشكلٍ مستقل، وبين مستوى التطور الممكن كما يحدِّده حلُّ المشكلات بإرشادٍ من البالغين، أو بالتعاون مع أقران أكثر مقدرة». أي: إنّ هنالك حدّاً أدنى لهذا النطاق، إذا بقيَ الفردُ تحته، رغم وجود إمكانية حقيقية لتجاوزه، فإنه يتخلّف ولا يتطوَّر (كطالبٍ ذكيّ ولكن مهمل فيكون تحصيلُه العلميّ أضعف). بالمقابل، إذا تمّ دفعُ الفرد ليتجاوزَ بتسرُّعٍ الحدّ الأعلى لنطاق تطوّره القريب، فإنّ تطوّرَه يُجهَض (كأنْ يتمّ تزويجُ غير الناضجين لتحمِّل أعباء الزواج).
نعتقدُ أنّ نظريةَ فيغو تسكي هذه متأثّرةٌ بنظريّة لينين حول «توجيه» وقيادة الجماهير (عدم التخلّف وراءها ولا الانفراد أمامها بخطوات شاسعة) وتكتيك النضال ضدّ التطرف اليساري واليميني– كما في «مرض اليسارية الطفولي» و«ما العمل» – ولو أنّ كلاً منهما طبَّق نظريَّته على موضوع مختلف.

فيغوتسكي مؤسِّساً لمنهج عِلم النفس الماركسي- اللينيني (1)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1021