نقد ميتافيزياء «اللّايقين» – ديفيد بوم ضدّ فيرنر هايزنبرغ
«أحجَمَ معظمُ الفيزيائيين عن الخوض بتفسير سببي للنظرية الكوانتية، جزئياً لاعتبارات عَمَلية، وجزئياً لاعتبارات فلسفية؛ استندت على مبدأ اللّاتعيين الشهير لهايزنبرغ، والذي اعتبر علاقات اللّاتعيين (اللّاحتميّة/اللّاديترمينيّة) indeterminacy (كالتي تنص على أنه: كلما تحدّد موضعُ جسيمة بدقّة قلّت دقّة تحديد عزمها وبالعكس) تجسيداً لمبدأ عام أساسيّ وشامل جداً لكلّ شيء، بدل اعتبارها استنتاجاً من النظرية الكوانتية بشكلها الراهن، فزعمَ تمثيلَ هذه العلاقات لقانونٍ أساسيّ للطبيعة وصلاحيتها المطلقة والنهائية، حتى لو خَضعَ الشكل الحالي من النظرية الكوانتية بنهاية المطاف لتصحيح وتوسيع أو حتى لتغيير جذري وثوري. النظرة العامة لدى هايزنبرغ (ومعظم أنصار التأويل المعتاد للنظرية الكوانتية) هي أنّ التطورات المستقبلية بالفيزياء ستنحو باتجاه فرض حدود لا يمكن تجاوزها إطلاقاً لدقّة جميع القياسات الممكنة» – ديفيد بوم (1957)
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
نُكران السببيّة في المجال الذرّي
أثار مبدأ اللّاتعيين أسئلة فلسفية جديدة وساهم بإنكار الفيزيائيين للسببية في مجال الذرة، وتبنّي نظرة فلسفية مختلفة عن التي سادت حتى ظهور النظرية الكوانتية الحديثة. بالطبع يستطيع المرء افتراض اللّاتعيين بموضع وعزم الإلكترون نتيجةً لواقع أنّ هذه المتحولات ليست وصفاً كاملاً للإلكترون. ويمكن للمرء، كبديل، افتراض أنّ وصفاً أكملَ سيتطلّب أنواعاً جديدة كيفياً من المتحولات تتعلّق بمستوى ميكانيكي ممكن ما تحت كوانتي؛ متحوّلات لا تظهر حتى في النظرية الكوانتية الحالية. بحيث لو حدّدنا فقط الموضع والعزم كمتحوِّلَين يعطيان تقريباً كافياً لسماتٍ محدَّدة فقط على المستوى ذي النطاق الكبير، سنكتشف أنّ سلوك الإلكترون لا يمكن التنبّؤ به، بسبب تَرْكِ عواملَ مُحدِّدةٍ مهمّة على المستوى الذري خارجَ النظرية.
«لا يقينٌ» بالقياس أم إنكارٌ للموضوعية؟
يفترضون مبدأ اللاتعيين حدّاً مطلقاً ونهائياً يقيّد قدرتنا على تحديد حالة الأشياء بواسطة القياس من أيّ نوعٍ كان، سواء حالياً أو مستقبلاً، مما يوصل إلى نتيجة عميقة العواقب: سيغدو السلوك المستقبلي لمنظومةٍ ما متوقَّعاً فقط إلى تلك الدرجة من الدقة المتوافقة مع حد أقصى يفرضه «مبدأ» اللّاتعيين. وهكذا فنُكران السببية بالتأويل المعتاد للنظرية الكوانتية لا يُعتبر، وفق هذا التأويل، مجرّد نتيجة لعجزنا عن قياس القيم الدقيقة للمتحولات الداخلة بتعبيرات قوانين سببية ذرّية، بل بالأحرى انعكاساً لعدم الوجود الواقعي (وفقاً لهم) لقوانينَ سببية كهذه! لذلك أرى أنْ نطلق مصطلح «اللّاتعيين» أو «اللاحتمية» indeterminacy كوصف ملائمٍ أكثر من تسمية «مبدأ اللّايقين» uncertainty الشائعة، لأنه بقدر ما يتعلّق الأمر بمتحولات مرصودة فيزيائياً، فإنهم لا يفترضونها فقط «لا يقينية» بالنسبة للإنسان (بمعنى عدم قدرته على قياسها بدقة تامّة) بل بالأحرى يتمّ افتراض أسلوب وجودها بذاته «غير مُتَعَيِّن»!
نقد نتائج التأويل اللاتعيينيّ
سلسلة المحاكمات التي استُقيَت منها نتائج «مبدأ هايزنبرغ» تعاني من نقاط ضعف خطيرة. لنتذكّر أنّه لبرهان «مبدأ» اللّاتعيين كان ضرورياً استخدام ثلاث خواص: تكميم الطاقة والعزم بكل التفاعلات، ووجود جانبين (موجيّ وجسيميّ) لهذه الكمَّات، والطابع غير القابل للتنبّؤ به، أو التحكّم به لخواص محدَّدة للعملية الكوانتية. ورغم أنّ هذه الخواص ناجمة عن الشكل العام الحالي للنظرية الكوانتية، لكننا نثير هنا بالضبط السؤال عمّا إذا كان يوجد أم لا يوجد مستوى ميكانيكي تحت-كوانتي للحركة المستمرّة والمُتَعَيِّنة سببياً، بحيث تكون قوانين الميكانيك الكوانتي عبارةً عن تقريبٍ يصحّ على المستوى الذرّي. لأنّه إنْ كان مستوى تحت- كوانتي كهذا موجوداً، فإنّ الفرضيات الأساسية المشار إليها أعلاه، والتي هي ضرورية لصلاحية مبدأ اللّاتعيين، تفقد صلاحيتها عند هذا المستوى الأعمق.
وبالتالي، تبدو متسرّعةً للغاية تلك المبرِّرات التي سِيقَت لِهُجران مفاهيم السببية واستمرارية الحركة والواقع الموضوعي للمواضيع الميكروية. فمن الممكن تماماً أنّه في حين كون النظرية الكوانتية، ومعها مبدأ اللّاتعيين، صالحة لدرجة عالية جداً من التقريب في مجالٍ محدّد، فإنهما لا يعودان ملائمَين في مجالات جديدة تحت تلك التي يمكن فيها تطبيق النظرية الحالية. وهكذا، فإنّ الاستنتاج بعدم وجود مستوى أعمق ذي حركة متعيّنة سببيّاً، لا يعدو أنْ يكون مجرّد مُحَاجّة دائرية لأنها تَنتُج فقط عن الافتراض المُسبَق بأنّ مستوى كهذا غير موجود.
الواقع لا «ينهار» بل يُستَبدَل «مُخطَّطُه»
سبق لفون نيومَان أنْ أثارَ السؤال التالي: «بالإضافة إلى هذه (المرصودات)، هل ثمّة متحوّلات (خَفيّة) غيرها حالياً، يمكن أن تساعد بتحديد حالة المنظومة بدقة أكثر ممّا هو ممكنٌ الآن في الصياغة الحالية للنظرية الكوانتية؟». إنّ «برهانَه» على أنّ هذا «مستحيل» اعتمد بالجوهر على الافتراض بأنّ جزءاً على الأقل من سمات حالة المنظومة سيتعلّق دائماً بهذه المرصودات، وأنّ المتحولات الخفيّة لن تقدّم بأحسن الأحوال سوى مزيدٍ من الدقّة للسمات المعطاة مسبقاً بوساطة المرصودات. من الجليّ أنّ فرضيةً كهذه تحدّ بشدّة من أشكال النظريات التي يمكن أخذها بالاعتبار، لأنها تهمل الإمكانية المهمّة في أنّنا عندما نمضي إلى مستوى ميكانيكي تحت- كوانتي، فإنّ كامل مخطّط المرصودات التي تلبّي قواعد محدّدة ملائمة للمستوى الميكانيكي الكوانتي سوف ينهار، ليُستبدل به آخر مختلف كثيراً. وبهذه الحالة، لن يكون برهان «مُبرهنة فون نيومان» ملائماً، لأنّ الشروط المعتبرة هنا تتخطّى الفُروض الضمنية المطلوبة لتنفيذ البرهان.
بوم منتقداً الجمود العقائدي بالفيزياء
وهكذا نرى بأنّه سواء بحالة مبدأ اللّاتعيين أو بمبرهنة فون نيومان، تمّ استقاء النتائج المتعلقة بالحاجة لنُكران السببية والاستمرارية والواقع الموضوعي للمواضيع الميكروية، ليس من الوقائع التجريبية الكامنة بأساس الميكانيك الكوانتي، ولا من المعادلات الرياضية التي تعبّر عن النظرية. بل بالأحرى من فرضية (مضمرة ضمنياً أكثر منها صريحة) بأنّ عناصر محدّدة مرتبطة بالصياغة الحالية للنظرية هي عناصر مطلقة ونهائية، ولا يمكن نقضها بنظريات مستقبلية، ولا يمكن اكتشاف أنّها تقريبات تصحّ فقط بنطاقٍ محدودٍ. إنّ فرضية كهذه، وإذْ تَحدُّ بشدّة الأشكالَ الممكنة لنظريات مستقبلية، تمنعنا من التفكير بمستوى ميكانيكي تحت-كوانتي يمكن أن تجري فيه أنواعٌ جديدة من الحركة تنطبقُ عليها أنواعٌ جديدة من القوانين السببية.
وهكذا يقصرون التفكير المَفاهيمي على النطاق الكلاسيكي، بحيث لا يبقى خارجَه سوى الانخراط بمناورات تقنية بحتة للرموز الرياضية وفقاً لوَصفات مناسبة تكون الشغل الشاغل للفيزيائيين النظريّين لكي يكتشفوها. وبالنتيجة يُحكَمُ مُسبقاً بالفشل على أيّ مجهود لتصوّر مستوىً تحت- كوانتي، لأنّهم يعتبرون أنه حتى لو وُجِد مستوى كهذا بالفعل، فلن يكون بمقدورنا أبداً الاختبار المباشر للكيانات الموجودة فيه، ولن يكون ثمّةَ بالتالي أيّ أملٍ بتخيُّل ماذا عساها تكون تلك الكيانات.
السبب الثاني لعدم اهتمام الفيزيائيين النظريين عموماً بإمكانية مستوى ميكانيكي تحت- كوانتي، هو التبنّي الواسع لفكرة أننا ينبغي عدم افتراض وجود كياناتٍ لا يمكن رَصدُها/مُراقبتها بالطرائق المتاحة مسبقاً، وهي فكرةٌ ناجمة عن وجهة نظر فلسفية عامة لها فروعٌ شتّى مثل: «الوضعية»، و«الإجرائية»، و«التجريبية»، وغيرها، والتي أخذت تنال شعبية واسعة بين الفيزيائيين خلال القرن العشرين.
يعتقد الفيزيائيون الحديثون: أنّ أزمة الفيزياء الحالية يمكن حلّها بتنقيح تفاصيل الأنواع العامة من النظريات الاحتمالية الرياضية الراهنة. إنّ المشترك بينهم وبين الكلاسيكيين هو الميل إلى افتراض الطابع المطلق والنهائي للعناصر العامّة للنظرية الأكثر أساسية التي يجدونها قائمةً في زمانهم، والتي يشتغلون فيها. وهكذا فإنّ التأويل المعتاد للنظرية الكوانتية يمثّل بمعنىً ما استمراراً طبيعياً للموقف الميكانيكي للفيزيائيين الكلاسيكيين.
- ديفيد بوم David Bohm (1917–1992): فيزيائي أمريكي، مؤسِّس تيار في الميكانيك الكوانتي، استرشد عن وعي بالفلسفة العلمية المادية الديالكتيكية في مرحلة من نتاجه، فجاء مناهضاً لمعظم التأويلات المثالية السائدة (كوبنهاغن، الأكوان المتعددة...إلخ) رغم أنّه لم ينجُ أحياناً ولاحقاً من الشطحات المثالية فلسفياً إضافةً إلى النسبويّة. النص تلخيصٌ لمقاطع مختارة من الصفحات )55–70) من مقدّمة كتابه «السببية والصدفة في الفيزياء الحديثة» (1957) Causality and Chance in Modern Physics.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1023