اختناقات بتمويل الأبحاث العلمية بفعل الأزمة الاقتصادية والوبائية
نيديهي سوبرامان نيديهي سوبرامان

اختناقات بتمويل الأبحاث العلمية بفعل الأزمة الاقتصادية والوبائية

تتنامى الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الجائحة حول العالم، ويخشى بعض الخبراء من أنها قد تلحق الضرر بالعلوم لعقود قادمة، عبر التسبُّب بتسريح آلاف الباحثين من العمل، وإجبار الدول على خفض تمويلاتها بحدّة في إطار جهود إعمار المجتمعات، بينما يذهب آخرون إلى أنّ الجائحة يمكن أنْ تلفت الانتباه إلى أهميّة العلوم، وتشجّع على تقديم دعمٍ طويل الأمد لها، ولا سيّما البحوث الأساسية، مثلما حدث في زمن الحرب العالمية الثانية– المقال التالي المنشور في مجلة «الطبيعة» في آب 2020 يسلّط الضوء على هذه المشكلة التي يبدو أنها سوف تتفاقم أكثر، وخاصةً في الاقتصادات الرأسمالية الأكثر تأزّماً.

ترجمة: القسم العربي بمجلة Nature

ارتفع معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى مستويات لم يشهدها هذا البلد منذ ثلاثينات القرن العشرين، ويحاول كثيرٌ من قادة الكيانات العلمية الترويج لأهمية دعم البحوث والتطوير. ويقول هارولد فارموس– العالِم بمرض السرطان والحاصل على جائزة نوبل، والذي قاد معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH) بين عامي 1993–1999: «دون مؤازرة العلم، سيكون بلدنا في خطر».
وربما تزدهر علوم البيولوجيا في أعقاب الجائحة، على غرار ازدهارها منذ عقود بعد فترة البحوث والاستكشافات في علوم الفيزياء بفضل القمر الصناعي السوفييتي «سبوتنِيك» في عام 1957 (والذي كان بحجم كرة شاطئ، لكنه أطلق شرارة عصر السباق إلى الفضاء). وتُعَقِّب جوليا فيليبس– من المجلس الوطني الأمريكي للعلوم، والرئيسة التقنية السابقة لمختبرات سانديا الوطنية في ألباكركي في نيومكسيكو– قائلة: «إنّ الباحثين يتوجَّهون إلى الأماكن التي يجدون فيها مَن يموِّلُهم».

تفاوت الدول في «التعافي العلمي»

سوف تتنوّع التبعات الاقتصادية طويلة الأمد على العلوم تنوّعاً كبيراً حسب البلد. فعلى سبيل المثال: حذّرت أستراليا من احتمالية تسريح 7000 شخصٍ من العاملين في المجال البحثي خلال عام 2020 لوحده، في حين لا تزال الدوائر العلمية على حالها بوجه عام في ألمانيا، إذْ يلتزمُ البلد باستثمار 17 مليار يورو إضافية (18 مليار دولار أمريكي) في وكالات العلوم حتى عام 2030، بزيادة سنوية ثابتة مقدارها 3% في ميزانية هذه المؤسسات. ورغم تضرُّر الاقتصاد والزخم العلمي في الصين بشدة بفعل فيروس كورونا الجديد، لكن الصّين لديها من الإمكانات ما يمكّنُها من التعافي من الأزمة بسرعة نسبيّاً. ويمكن أن تعيد ترتيب أولوياتها، بحيث تضخّ المزيد من الاستثمارات في علوم الأحياء والأوبئة، حسب ما أفاده تسونج تساو، عالِم الاجتماع في جامعة نوتنجهام في نينجبو بالصين.
ويمكن لبعضٍ من أشدّ التغييرات وطأةً أنْ تَحدُثَ في الولايات المتحدة، إحدى الدول الكبرى المموِّلة للبحث العلمي في العالَم، وخاصةً أنها بلدٌ تُتّخذ فيه قرارات التمويل سنويّاً، خلافاً لكثير من البلدان.
أخذ العديد من المعنيين بالسياسات العلمية يدرسون تجارب من الصدمات الاقتصادية السابقة، وتحديداً تجربة كساد 2007–2009، للوصول إلى مفاتيح لاستشراف ملامح المستقبل. ويجدر بالذكر أنه عقب ذلك التدهور الاقتصادي، ضخت الحكومة الأمريكية أموالاً إضافية إلى الوكالات العلمية الفيدرالية، بهدف إطلاق برامج في إطار «قانون الانتعاش وإعادة الاستثمار الأمريكي» (ARRA)، وهي خطة وطنية لتعزيز الأنشطة البحثية عبر القطاعات كافة. مثلاً: تلقّت معاهد الصحة الوطنية الأمريكية آنذاك 10,8 مليارات دولار أمريكي إضافية عام 2009 إلى جانب ميزانيتها السنوية، البالغة 30 مليار دولار. وقد مثلت التمويلات التي أمَّنها هذا القانون «مبلغاً هائلاً من المال» آنذاك، حسب تعبير جنيفر زايتزر، مدير العلاقات التشريعية باتحاد الجمعيات الأمريكية لعلم الأحياء التجريبي (FASEB) في مدينة بيثيسدا بولاية ميريلاند.

مطالب كبرى

من المتوقع أن تتزايد الحاجة إلى التمويلات حالياً ولاحقاً مقارنةً مع الحقبة الماضية. ففي أوائل نيسان 2020، تقدَّم ائتلاف يمثل الجامعات الأمريكية إلى الكونغرس بطلب يلتمس فيه صرف 26 مليار دولار لوكالات تمويل العلوم لدعم القوى العاملة المشتغلة بالعلوم، وإعادة فتح المختبرات الأكاديمية. ويمكن لهذا التمويل مثلاً أن يخفف من وطأة تأخُّر المِنَح، ويعيد إنشاء مستعمرات الفئران التي اضطرّت المختبرات لقتلها، وأنْ يزوّد المتاجر بمعدّات الوقاية الشخصية التي تمّ التبرع بها لجهود مكافحة الجائحة.
وحتى الآن، ومِن مبلغ يقارب ثلاثة تريليونات دولار، اعتمده الكونغرس لجهود الإغاثة في هذا الوضع الطارئ، تم رصد أربعة مليارات دولار تقريباً لوكالات العلوم الفيدرالية، من أجل أنشطتها المتعلقة بمكافحة فيروس كورونا الجديد، التي منها: تطوير اللقاحات والعلاجات. وتتوقع مجموعاتٌ على غرار اتحاد الجمعيات الأمريكية لعلم الأحياء التجريبي أنْ تُلحِقَ إجراءاتُ تجميد التعيينات وتقليص المختبرات ضرراً شديداً بأعضاء هيئات التدريس ممن هم في مقتبل مسيرتهم المهنية، وخاصةً الطلبة المتخرجين. وتعلِّق زايتزر على ذلك قائلة: «وماذا بعد؟ لا شك أننا في غاية القلق».
وتجدر الإشارة إلى أنه حتى في الأزمات الاقتصادية الماضية، تَلَقَّى المجتمع العلمي الأمريكي دعماً منتظماً من الحكومة والصناعات، إذ ارتفع إجمالي التمويلات المخصصة له بما يزيد على عشرة أضعاف منذ أواسط القرن العشرين، وذلك بأخذ التضخم في الاعتبار. ويشكّل قطاع الأعمال حوالي 70% من حجم الإنفاق الأمريكي على البحوث الأساسية، والتطبيقية، والانتقالية. ورغم ذلك، لا تزال حكومة الولايات المتحدة المموّل الأكبر للعلوم الأساسية في البلد، إذ قدّمت تمويلاً يبلغ 121 مليار دولار في عام 2017.

صدمة اقتصادية كبرى قدّ تهزّ العِلم بأمريكا

رغم زيادة الكونغرس للتمويلات الفيدرالية المُنفَقة على العلوم سنويّاً وبانتظام، فيمكن لحدوث صدمة اقتصادية كبرى أن يحيد به عن هذا التوجّه. من هنا، يعقّب إلياس زرهوني، وهو طبيب تولى قيادة معاهد الصحة الوطنية بين عامي 2002–2008، على ذلك قائلاً: «عندئذ سنشهد سيناريو تنخفض فيه فعليّاً ميزانيات الوكالات البحثية».
ويمكن لمثل هذه الضربة أنْ تخلّ بالتوازن بين البحوث الأساسية والتطبيقية. وتضيف فيليبس أنّ العلوم التجريبية والتطبيقية فُضِّلت على البحوث الأساسية في الضائقات المالية السابقة. وإذا حدث هذا الآن، فقد تفقد الولايات المتحدة قدراتها التنافسية بعد عقود في المستقبل. وتختم فيليبس حديثها قائلة: «ستتقلص فرصنا المستقبلية».
من زاوية أخرى، يقول فارموس: إنه في وقت تسترعي فيه مكافحة فيروس كورونا الجديد انتباه العموم والجهات التشريعية أيضاً، قد تكون هذه فرصةً سانحة للجامعات والعلماء كي يطالبوا بالمزيد. ويضيف قائلاً: «أعتقد أن الولايات المتحدة مهيَّأة الآن لتقدير واحترام ما يتمتع به العِلم من إمكانات لتسخيرها لما يواجهه البلد من تحديات. وفضلاً عن ذلك، صار البلد يرى التداعيات الاقتصادية لعدم الاستعداد للأزمات بصورة أفضل».
في الواقع، تقدّمت جهات تشريعية أمريكية عديدة بقوانين لزيادة التمويل الموجَّه إلى مؤسسة العلوم الوطنية بصورة كبيرة، إذ اقترحت صرف 100 مليار دولار للمؤسسة على مدار خمس سنوات، في حين تبلغ ميزانية المؤسسة السنوية الحالية 8 مليارات دولار تقريباً. وحتى صيف 2020 لم تكن احتمالية ترجمة هذه الخطة إلى قانون مُلزِم واضحة بعد، لكن زايتزر تتوقع أنْ يكون المبلغ المرصود للمؤسسة أقلّ، إذا حدث.

الأزمة الاقتصادية والعلوم في بريطانيا

يقول جيمس ويلزدون، الذي يدرس سياسات العلوم والتكنولوجيا بجامعة شيفيلد البريطانية: «إذا كان المشهد الاقتصادي العام ينذر بخراب شديد، بمعنى حدوث ركود أو كساد مطوّل، فلا يمكن بتاتاً التنبؤ بالتبعات التالية».
ولكنّ آخرين يأملون أنْ يكون مصير العلوم في بريطانيا أفضل منه في الولايات المتحدة. ففي شهر آذار 2020، أعلنت الحكومة البريطانية عن خطة وصفت بالـ «جريئة» لزيادة تمويل البحوث العلمية من 9 مليارات جنيه إسترليني سنويّاً (11 مليار دولار أمريكي) إلى 22 مليار جنيه إسترليني بحلول العام المالي 2024/2025. وحتى صيف 2020، لم تكن توجد أيّة أمارات على أنّ هذا التعهد سيتغير، لكن عَدم اليقين حول عواقب الأزمة الاقتصادية على العلوم لا يزال يخيّم بظلاله الثقيلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1019