فيغوتسكي مؤسِّساً لمنهج عِلم النفس الماركسي- اللينيني (1)
ليف فيغوتسكي ليف فيغوتسكي

فيغوتسكي مؤسِّساً لمنهج عِلم النفس الماركسي- اللينيني (1)

«بناءً على مقاربةٍ مادية ديالكتيكية لتحليل التاريخ البشري، فإنّ السلوكَ البشري يختلف نوعياً عن سلوك الحيوان إلى الدرجة نفسها التي تختلفُ فيها القُدرةُ على التكيُّف والتطوُّر التاريخي للبشر عن قدرة الحيوانات على ذلك. إنّ التطوُّرَ النفسيَّ للبشر هو جزءٌ من التطوُّرِ التاريخيّ العام لجنسنا، ويجب فهمُه على هذا النحو. وقبولُ هذه الموضوعة يعني أنه يجب علينا إيجادُ منهجيَّةٍ جديدة للقيام بالتجارب النفسية» – عالِم النفس السوفييتي ليف فيغوتسكي (1896– 1934).

تعريب: د. أسامة دليقان

في البحث عن أساسٍ صالحٍ لدراسةٍ كافية لأشكال السلوك البشرية العليا على وجه التحديد، لا يمكن الاكتفاء بإطار عملِ (التنبيه- الاستجابة) المستخدمِ لبناء الملاحظات التجريبية. فهذا لا يساعدُنا، في أحسن الأحوال، سوى في تسجيل وجود الأشكال الدُّنيا والتَّابعة، والتي لا تَلتقطُ جوهرَ الأشكال العُليا. والأساليبُ الحالية لا تمكِّنُنا سوى من تحديدِ التباين الكمّي في تعقيد المنبِّهات، وفي استجاباتِ مختلف الحيوانات والبشر في مراحلَ مختلفةٍ من التطوُّر.
إنّ حجرَ الأساس لمنهجنا، الذي سأحاولُ وصفَه تحليلياً في الأقسام التالية، مُستَمدٌّ مباشرةً من التباينِ الذي رسَمَه إنجلس بين مذهبَين في فهم التاريخ البشري: المذهب الديالكتيكي مقابل «المذهب الطبيعي» naturalism الذي انتقده إنجلس، والذي يتجلّى في التحليل التاريخي، بحسب إنجلس، في افتراض أنّ الطبيعة فقط هي التي تؤثّر على البشر، وأنّ الظروفَ الطبيعية فقط هي التي تُحدِّدُ التطوُّرَ التاريخيّ.
إنّ المذهب الديالكتيكي يعترفُ بتأثير الطبيعة على الإنسان، لكنّه بالوقت نفسه يؤكِّد أنّ الإنسانَ بدوره يؤثِّرُ على الطبيعة ويخلِقُ- من خلال التغييرات التي يحدثها فيها- الظروفَ الطبيعيةَ الجديدة لوجودِه. هذا الموقف هو حَجَرُ الزاوية في منهجنا لدراسة وتفسير الوظائف النفسية العليا للإنسان، ويشكّلُ الأساسَ للطرائق الجديدة للتجريب والتحليل التي ندعو إليها.
تعاني جميع طرائق (علم النفس) القائمة على (التنبيه والاستجابة) من جوانب القصور نفسها التي نَسَبَها إنجلس إلى المذاهب الطبيعية في مقاربة التاريخ. فكلاهما [طرائق التنبيه والاستجابة، والمذاهب الطبيعيّة] ينظران إلى العلاقة بين السلوك البشري والطبيعة على أنها تفاعليةٌ أحاديُّةُ الاتجاه. ولكنّنا، أنا وزملائي، نعتقدُ أنَّ السلوكَ البشري يتوصّلُ إلى «ردّ الفعل التغييري على الطبيعة» والذي ينسبُه إنجلس إلى الأدوات [أدوات العَمل]. يجب علينا إذن البحث عن طرقٍ مناسبةٍ لتصوّرنا هذا، وعن إطارٍ تحليليٍّ جديد مقترنٍ معها.
لطالما أكّدتُ: أنّ الهدفَ الأساسيَّ لبحثنا هو تقديمُ تحليلٍ لأعلى أشكال السلوك، ولكنَّ الحالةَ الراهنة لعِلم النفس المعاصر تقتضي مناقشةَ مشكلةِ التحليل نفسها، إذا كان لمنهجنا أنْ يُعمَّمَ إلى ما هو أوسعُ مِن أمثلةٍ خاصّةٍ مُعطاة.
إنّ أساسَ منهجنا في تحليل الوظائف النفسية العليا يشتملُ على ثلاثة مبادئ [نعرضُ هنا الأوَّل والثاني ونترك الثالث للعدد القادم – المُعرِّب]

أولاً: تحليلُ العمليّات لا الأشياء

يقودُنا المبدأ الأول إلى التمييز بين تحليلِ (شيءٍ ما) وتحليلِ (عمليّةٍ ما). وكما بيّن كوفكا Koffka فإنّ التحليل السيكولوجي كان يتعاملُ، دائماً تقريباً، مع العمليات التي يحلُّلُها على أنّها أشياء (مواضيع) مستقرّة وثابتة. وكانت تتمثل مهمة التحليل في تقسيم هذه الأشكال إلى مكوِّناتها. يجبُ أنْ يتمايز التحليلُ السيكولوجي للأشياء عن تحليل العمليّات، فهذا الأخير يتطلّب عرضاً ديناميكياً (حَرَكياً) للنقاط الرئيسة التي تشكّل تاريخَ العمليات. وبالتالي، فإنَّ عِلمَ النفس التطوّريّ، وليس عِلمُ النفس التجريبيّ، هو ما يؤمِّن لنا النَّهجَ الجديد للتحليل الذي نحتاجُه. ونحنُ مثل فيرنر Werner، ندافع عن النَّهج التطّوري باعتباره إضافةً أساسيةً إلى عِلم النفس التجريبي. إنّ أيَّة عمليةٍ نفسيّة، سواء كانت تطوُّرَ الفكرِ أو تطوُّرَ السلوكِ الإراديّ، هي عمليةٌ تخضعُ للتغييرات أمام عَينَي المرء. يمكن أن يقتصر التطور المَعنيّ على بضعِ ثوانٍ فقط، أو حتى أجزاء من الثانية (كما هو الحال في الإدراك العاديّ). ويمكن لهذا التطوّر أن يستمر أيضاً (كما في حالة العمليات الذهنية المعقَّدة) لعدة أيام وحتى أسابيع. وفي ظروفٍ معيَّنة يمكننا تتبُّع هذا التطور. يقدِّم عملُ فيرنر أحد الأمثلة على كيفية تطبيق وجهة نظرٍ تطوُّرية على البحث التجريبي. وباستخدام مثل هذا النَّهج، يمكن للمرء، في ظل ظروف المختبر، أن يحرّض التطوّر.
ويمكن أن يُطلَق على منهجنا تسميةُ «التطوّري- التجريبي»، بمعنى أنه يعمَلُ على تحريضٍ أو خَلقٍ مصطَنَع لعمليةِ تطوُّرٍ نفسيّ. وهذا المنهج مناسبٌ بالقدر نفسه للهدف الأساسيّ للتحليل الديناميكي. إذا قُمنا بتحليل (العملية) بدلاً من تحليل (الشيء)، فمن الواضح أنّ المهمة الأساسية للبحث تصبح عندئذٍ إعادةَ بناءِ كلِّ مرحلةٍ مِن مراحلِ تطوّرِ العملية: يجبُ إرجاعُ العملية إلى مراحلها الأوّلية.

ثانياً: التفسير مقابلَ التوصيف

إنّ التحليلَ في كلٍّ من علم النفس الاستبطاني وعلم النفس المعتمد على تداعي الأفكار، ليس في جوهره– وفقاً لفهمنا– إلّا توصيفاً، لا تفسيراً. فمجرُّد التوصيف لا يكشفُ العلاقات السببية الديناميكية الفعلية الكامنة وراء الظواهر.
يقارِنُ كورت ليفين Lewin التحليلَ الظواهريّ (الفينومينولوجي)، المُعتَمِد على السمات الخارجية (الأنماط الظاهرية phenotypes)، مع ما يسمّيه تحليلَ الأنماط الجينيّة genotypes، حيث يتم في هذا الأخير تفسيرُ الظاهرة على أساس أصلها (نشوئها) بدلاً من مظهرها الخارجي. والفرقُ بين هاتين الوُجهَتَين يمكن توضيحُه من خلال أيّ مثال بيولوجي. فالحوت، من وجهة نظر مظهره الخارجي، يبدو أقرب إلى عائلة الأسماك منه إلى الثدييات، ولكنه في طبيعته البيولوجية أقربُ إلى بقرةٍ أو غزالٍ منه إلى سمكةِ الكراكي أو سمكةِ القِرش. وباتباعِ ليفين، يمكننا أنْ نطبّقَ على علم النفس هذا التمييز بين وجهتي النظر: ظاهريّة النمط (الوصفية) وجينيّة النمط (التفسيرية). وبالدراسة التطورية لمشكلةٍ ما، فإنّني أعني الكشفَ عن نشأتها وأساسها الديناميكي السَّبَبي. أما بدراسة النمط الظاهري، فأنا أعني التحليلَ الذي يبدأ مباشرةً بالسِّمات والمظاهر الحالية للشيء أو الموضوع. ومن الممكن تقديمُ العديد من الأمثلة من عِلم النفس، التي ارتُكِبَت فيها أخطاءٌ جَسيمةٌ بسبب الخلط والتشوّش حيال هاتين النَّظرَتَين...
[تتمة المقال في العدد القادم. المصدر: القسم الثالث من كتاب فيغوتسكي «تاريخ تطوِّر الوظائف النفسية العليا» الذي ألَّفَهُ عام 1931]
ليف سيميونوفيتش فيغوتسكي: ولد في 5 تشرين الثاني 1896 في بيلاروسيا (بلدته أورشا شمال شرق مينسك). عام 1917 تخرّج من جامعة موسكو متخصّصاً بالأدب. من 1917 إلى 1923 درّس الأدب وعلم النفس بإحدى مدارس غوميل، وأدار قسم المسرح بمركز تعليم الكبار ملقياً عدة محاضرات حول مشكلات الأدب والعلوم. خلال هذه الفترة أسس المجلة الأدبية «فيراسك»، ونشر فيها بحثه الأدبي الأول الذي صدر لاحقاً باسم «علم نفس الفن». كما أسس مختبراً نفسياً في معهد تدريب المعلمين، وألقى دورة في علم النفس نُشرت لاحقاً في مجلة «علم النفس التربوي». في عام 1924 انتقل إلى موسكو وبدأ العمل أولاً في معهد علم النفس ثم معهد علم التشوّهات الذي أسَّسه بنفسه. وأدار قِسماً لتعليم الأطفال المعاقين جسدياً وعقلياً في ناركومبروس (اللجنة الشعبية للتربية والتعليم)، وقام بالتدريس في أكاديمية كروبسكايا للتربية الشيوعية بجامعة موسكو الحكومية الثانية (لاحقاً معهد موسكو الحكومي للتربية)، ومعهد هيرتزين التربوي في لينينغراد. بين 1925 و1934 جمع حوله مجموعة كبيرة من العلماء الشباب العاملين في مجالات علوم النفس والتشوهات والشذوذ العقلي. اهتم بالطب وتلقّى تدريباً طبّياً في المعهد الطبي بموسكو ثم خاركوف، حيث ألقى دورة بعلم النفس في الأكاديمية الأوكرانية للسيكولوجيا العصبية. قبل وقت قصير من وفاته، تمت دعوته ليترأّس قسم علم النفس في معهد الطب التجريبي لعموم الاتحاد السوفييتي. توفي فيغوتسكي باكراً في السابعة والثلاثين من عمره، بسبب مرض السل، بتاريخ 11 حزيران 1934 [من السيرة المختصرة لفيغوتسكي بقلم تلميذه ألكسندر رومانوفيتش لوريا].

فيغوتسكي مؤسِّساً لمنهج عِلم النفس الماركسي- اللينيني (2)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1020
آخر تعديل على الإثنين, 07 حزيران/يونيو 2021 01:40