هل ستظلّ الشمس تشرق من الشرق؟!

هل ستظلّ الشمس تشرق من الشرق؟!

«يدور كوكبنا الآن من الغرب إلى الشرق. فهل كان كذلك دوماً؟ وهل كان الشرق المكان الأول والوحيد لشروق الشمس؟ عندما تضرب صاعقةٌ مغناطيساً فإنها تعكس اتجاه قطبَيه. الكرة الأرضية مغناطيس ضخم، ويمكن أن تؤدي دارة قصيرة بينها وبين جسم سماوي آخر إلى انقلاب مَوضعَي قطبَيها المغناطيسيين الشمالي والجنوبي. ومن الممكن الكشف في السجلات الجيولوجية للأرض عن اتجاه المجال المغناطيسي الأرضي في العصور القديمة» – فيليكوفسكي.

إيمانويل فيليكوفسكي*
إعداد وتعريب: د. أسامة دليقان

انقلاب مغناطيسية الأرض

ينقل فيليكوفسكي عن أ. ماكنيش: «يكشف فحص مغنطة بعض الصخور النارية أنها مستقطبة على عكس الاتجاه الحالي السائد للمجال المغناطيسي المحلي، والعديد من الصخور القديمة ممغنطة بقوة أقل من الصخور الحديثة. وعلى افتراض أن مغنطة الصخور حدثت عندما تبردت الصُّهارة، وأنّ الصخور قد احتفظت بمواقعها الحالية منذ ذلك الوقت، فإنّ هذا يشير إلى أنَّ قطبية الأرض قد انعكست تماماً في العصور الجيولوجية الحديثة» – من كتاب «المغناطيسة والكهرباء الأرضية»، تحرير ج.أ. فليمنغ، 1939، ص32. ويعقب فيليكوفسكي: لأن الحقائق الفيزيائية بدت غير منسجمة أبداً مع كل النظريات الكونية السائدة، كان كاتب المقطع أعلاه حذراً من عدم استخلاص المزيد من الاستنتاجات منها. ومن المسائل الإضافية التي تطرح نفسها على نطاق واسع، هنا: ما إذا كان موضع الأقطاب المغناطيسية له علاقة مع اتجاه دوران الكرة الأرضية، وما إذا كان هناك ترابط بين اتجاه الأقطاب المغناطيسية للشمس والكواكب.

التنقيب عن الواقع المادي في التراث المثالي

يجمع فيليكوفسكي شهادات مثيرة للاهتمام من جميع أنحاء العالم على أن: الجانب من كوكبنا الذي يتجه الآن نحو المساء كان ذات يوم يواجه الصباح. ففي الكتاب الثاني من تاريخه، يروي هيرودوت محادثاته مع الكهَنة المصريين خلال زيارته لمصر في وقت ما خلال النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد. في تلخيصهم تاريخ شعبهم، أخبره الكهنة: أنّ الفترة التي أعقبت مَلكهم الأول غطت 341 جيلاً، وقدَّر هيرودوت أنّ ثلاثة أجيال تساوي قرناً واحداً، فتكون الفترة بأكملها أكثر من 11 ألف سنة. أكد الكهنة: أنه خلال العصور التاريخية الأقدم، ومنذ أن أصبحت مصر مملكة: «أربع مرات خلال هذه الفترة (هكذا أخبروني) كانَ الشمس يشرق [استخدَموا صيغة المذكّر للشمس] على عكس المعتاد؛ مرتين أشرقَ حيث يغرب الآن، ومرتين غربَ حيث يُشرق الآن» [هيرودوتس، الكتاب الثاني، ص142، ترجمةGodley، 1921].
هل يشير كلام الكهنة إلى التغيُّر البطيء في اتجاه المحور الأرضي خلال فترة 25800 سنة تقريباً، نتج عن دورانها حول نفسها أو عن الحركة البطيئة للنقاط الاعتدالية في مدار الأرض؟ هذا ما اعتقده ألكسندر فون هومبولت حول هذا «المقطع الشهير من كتاب هيرودوت الثاني الذي أرهَقَ عقولَ المعلِّقين».
يمكن للمرء أن يشك في مصداقية تصريحات الكهنة، أو التقاليد المصرية بشكل عام، أو يهاجم هيرودوت لجهلٍ في العلوم الطبيعية. ولكن لا توجد طريقة للتوفيق بين المقطع المذكور والعلوم الطبيعية الراهنة.
وتتحدث «بردية هاريس» [وهي من أطول برديات مصر القديمة، 42 متراً، العائدة لعهد الأسرة العشرين، والمكتشفة من البريطاني هاريس عام 1855] عن ثورانٍ كونيّ للنار والماء عندما «يصبح الجنوب شمالاً، وتنقلب الأرض». وبالمثل أشارت بردية الأرميتاج (لينينغراد) إلى كارثةٍ قلبت «الأرض رأساً على عقب، وحدث ما لم يحدث مطلقاً من قبل». وعبارة «انقلبت الأرض» لا تشير إلى الدوران اليومي للكرة الأرضية، لأنه أمرٌ يفترض أنه لم يكن معلوماً في ذلك الوقت (الألفية الثانية ق.م.).
في لغة المصريين القدماء تشير كلمة «هاراختي» إلى اسم «الشمس الغربية». وبما أنه لا توجد سوى شمس واحدة في السماء، فمن المفترض أن تعني الشمس في مكانها. ولكن لماذا يجب اعتبار الشمس عند غروبها إلهاً مختلفاً عن شمس الصباح؟ إنّ النصوص التي عثر عليها في الأهرامات لا تترك أي مجال لسوء الفهم: «إن النجم توقف عن العيش في المغرب، وأضاء، كواحد جديد، في المشرق». بعد عكس الاتجاه، لم تعد الكلمتان «غرب» و «شروق الشمس» مترادفتين، وكان من الضروري توضيح المراجع بإضافة: «الغرب الذي يقع عند غروب الشمس». لم يكن الأمر مجرد حشو لغوي، كما اعتقد مترجِم ذلك النص المصري.

إشارات من تراث الإغريق

كتب أفلاطون في حواره «رجل الدولة أو بوليتيكوس»: «أعني التغيير في شروق وغروب الشمس والأجرام السماوية الأخرى. كيف في تلك الأزمان كانت معتادةً أنْ تغرب في الرُّكن الذي تشرق فيه الآن... الإله في وقت ذلك العِراك، كما تتذكر، غيَّر كلَّ ذلك إلى النظام الحالي كشهادةٍ لصالح أتريس». ثم تابع أفلاطون: «في فترات معينة تكون للكون حركته الدائرية الحالية، وفي فترات أخرى يدور في الاتجاه العكسي... من بين جميع التغييرات التي تحدث في السماء، هذا هو الانعكاس الأكبر والأكثر اكتمالاً». لم يكن انعكاس حركة الشمس في السماء حدثًاً سلمياً؛ بل رافقه الاضطراب والدمار. كتب أفلاطون في العمل نفسه: «كان هناك في ذلك الوقت دمارٌ كبير للحيوانات بشكل عام، ولم يبقَ سوى جزء صغير من الجنس البشري».
كما أشار العديد من الأدباء اليونانيين قبل وبعد أفلاطون، إلى انعكاس حركة الشمس. فوفقاً لجزء قصير من الدراما التاريخية (أتريس) التي كتبها سوفوكليس: «زيوس... غيّر مجرى الشمس، مما أدى إلى إشراقها في الشرق وليس في الغرب». وكتب يوريبيدس في إلكترا: «ثم في غضبه نهض زيوس، وأعاد أقدام النجوم مرة أخرى إلى الطريق المستعِر بالنار. نعم، وحرقة سيّارة الشمس، والعيون الضبابية في رماديّ الصباح... الشمس استدارت إلى الوراء... مع سَورَة غضبِه في محنةٍ ابتلى بها الفانِين».
تتفق تقاليد الشعوب في مزامنة التغيرات في حركة الشمس مع الكوارث الكبرى التي أنهت عصوراً عالمية. إن التغيرات في حركة الشمس في كل عصر تجعل استخدام العديد من الشعوب لمصطلح «الشمس» بمعنى «العصر» [أو الحقبة] أمراً مفهوماً.

من التراث السوري والصيني

حسب بيلامي في «الأقمار، الأساطير، والإنسان»: «يقول الصينيون: إنه فقط منذ ظهور ترتيب جديد للأشياء، تتحرك النجوم من الشرق إلى الغرب... إن علامات البروج الصينية لها خصوصية غريبة في المضي في اتجاه رجعي، أي عكس مجرى الشمس».
وفي مدينة أوغاريت (رأس شمرا) السورية، عُثِرَ على قصيدة مكرَّسَة لإلهة الكوكب «عناة» التي «ذبحت سكان المشرق»، والتي «استبدلت الفَجرَين وموضع النجوم» (فيروليود، بعثة رأس شمرا، المجلد الرابع، 1938).
ووصفت هيروغليفات المكسيكيين أربع حركات للشمس في إشارة إلى «أربع شموس» ما قبل التاريخ، أي انقلاب المحاور أربع مرات. وأشارت مصادر عبرية قديمة أيضاً إلى هذه المسألة، في سنهدرين في التلمود: «سبعة أيام قبل الطوفان، غيّر القدّوس نظام العصر القديم، وصارت الشمس تشرق في الغرب وتغرب في الشرق». وينوّه فيليكوفسكي إلى أنّ المصادر التي جمعَها، حول انعكاس حركة الشمس، لا تشير إلى عصر واحد، مثلاً: الطوفان، ونهاية المملكة الوسطى، تفصل بينهما عدة قرون.
ويضيف الكثير من الشواهد التي لا يتسع المجال لعرضها كلها، لكن يجدر بالذكر أنه أشار أيضاً إلى آية في القرآن الكريم، يَعتقد بأنها ربما تشير أيضاً، كما في المصادر أعلاه، إلى ظواهر انقلاب مغناطيسية الأرض أربع مرات عبر زمن تاريخ الوعي البشري: «ربُّ المَشرقَين وربُّ المَغربَين» [الرحمن،17]، علماً بأن تأويلها في «تفسير الجلالين» هو: «مشرق الشتاء، ومشرق الصيف، والمَغربين كذلك».

* إيمانويل فيليكوفسكي: عالم روسيّ الأصل، وموسوعيٌّ في نطاق معارفه؛ بدأ بالتحليل النفسي، ثم اهتمّ بالميثولوجيا واللاهوت والأدب، والفلك، والفيزياء، والجيولوجيا، والبيولوجيا، وعلم الأحافير، والتاريخ. أثار كتابه الأشهر «عوالِم في تصادم» Worlds in Collision، والذي اخترنا منه المادة الحالية، جدالاً واسعاً في الوسط العلمي، واعتُبر «مهرطقاً» في الوسطين العلمي والديني على حد سواء، مما تسبب بإيقاف إعادة طباعة كتابه لفترة (رغم أنّ دار النشر غربية). أنهى مخطوط الكتاب عام 1946 ونشر طبعته الأولى عام 1950. ومن أبرز تنبؤاته العلمية فيه، توقّعه أنّ درجة حرارة كوكب الزهرة لا بدّ أن تكون عالية جداً، وذلك بناءً على فرضيته بأن الزهرة وافدٌ جديد تاريخياً إلى المجموعة الشمسية، وله علاقة مميزة مع ظواهر كونية شهدها الإنسان القديم ولم تعد موجودة، رابطاً ذلك مع النتاج البشري الأسطوري والديني، في نوع مميز من البحث المادّي عن أسس واقعية لعناصر الوعي البشري الجمعي والتاريخي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
974
آخر تعديل على الإثنين, 13 تموز/يوليو 2020 14:51