وحدة الإنسان من جديد.. والسياسة الصحية البديلة..
محمد المعوش محمد المعوش

وحدة الإنسان من جديد.. والسياسة الصحية البديلة..

يعاني الفكر الفلسفي في المجتمع الطبقي من الفصل بين ثنائية الذاتي- الموضوعي، ومن ثنائية المجرد-الملموس. فأزمة هذا الفكر تكمن في عدم القدرة على الربط الجدلي بين طرفي العلاقة، ما يمنعه من الإمساك بالتحول النوعي بينهما. من بين انعكاسات هذا الفصل على الوعي السائد، والفكر السياسي، ومجمل البنية الإيديولوجية لهذا المجتمع، أنه ينعكس مباشرة على الفكر الطبي والسياسة الصحية لهذا المجتمع.

تغييب الإنساني في الطب

من المعلوم أن الطب والفكر الصحي (النفسي والجسدي) السائدين يتعاملان مع الأمراض، وبالتالي مع علاجها، انطلاقا من خلفية سياسية تنطلق من تأبيد النظام الطبقي الرأسمالي القائم وعلاقاته. إنها إذاً تنطلق من أسس نظام لا إنساني في التعامل مع جسد وعقل ينتميان إلى إنسان متكامل له وجود إجتماعي وتاريخي. هذا يؤسس إلى تغييب الأساس الاجتماعي للأمراض عامة، ويتعامل مع نتائجها فقط. ومما يمكن ذكره أمراض صارت سمة المرحلة الراهنة (الرأسمالية في مرحلة تعفنها ووصولها إلى حدودها التاريخية) كالسرطان، الفصام العقلي، أمراض القلب. اخترنا هذه الأمثلة خاصة لما لها من خصوصية نوعية من حيث حدتها واتساع انتشارها بينا فئات واسعة تكاد تشمل مختلف الطبقات، وإن ظهرت أكثر لدى القوى المقهورة والمستغلة والمهمّشة. تعاطي الطب السائد اليوم مع هذه الأمراض (وغيرها) يُفرّغ موضوع الطب (الإنسان الفرد) من مضمونه الإجتماعي التاريخي، على الرغم من أنّ بروز محاولات للربط بين المجتمع والأمراض لم يعد أمام الفكر السائد خياراً إلا تبنيها ولو بأشكال مشوهة. ولكن لا تزال الممارسة الصحية باتجاهها العام الغالب محكومة بمنطق تغييب الاجتماعي- السياسي التاريخي، وعدم البحث بالأسباب. فالبحث الجيني، أو الغذائي، وحيد الجانب (في حالة السرطان)، والدماغي البيوكيميائي (في حالة الفصام)، وعادات التدخين والنظام الغذائي (في حالة أمراض القلب) مثلاً، كلها مؤشرات على تغييب الإنساني في موضوع الطب. وهذا شكل من الفصل بين الذاتي والموضوعي.

شكل آخر من الفصل

على الرغم من بروز تيارات تاريخية (غير ماركسية بالضرورة) تشدّد على العلاقة بين الجسدي والنفسي، وتأثير النفسي على الجسدي تحديداً، إلا أن الاتجاه العام الغالب لا يزال أيضاً يفصل بينهما، وهذا يمكن قياسه في الفصل بين قطاعين للطب في العالم أكادمياً وممارسياً، هما: الطب الجسدي وكل ما يتعلق به من أمراض من جهة، والطب العقلي- النفسي من جهة أخرى. هذا يُثبت الفصل بين طرفي علاقة الملموس والمجرد، المشار إليها أعلاه، عبر الفصل بين جدلية المعنوي والمادي في الإنسان، فيهدم وحدته. هذا الهدم للوحدة يحصل أيضاً على مستوى تفكيك الجانب المادي الجسدي من الإنسان، عبر تفكيك العلاقات العضوية التبادلية بين أعضائه وكونها تشكل وحدة متكاملة. لا نلغي بذلك ضرورة التخصصية، ولكن نقصد به العقلية الطبية التي يتم فيها تقييم الخلل والتوجه إلى علاجه.
سنحاول أن نُظهر أهمية هذا الفصل عبر حالة قد تتخطى قضية النفسي المباشر(القلق، الاكتئاب...) على الجسدي (أوجاع المعدة، ضغط الدم....)، وليكن المثال غريباً. فما علاقة فقدان النظر في إحدى عيني الإنسان بألمٍ ما في أعصاب أو خلل ما في الساق التي تنتمي إلى ذات جهة العين التي فقدت النظر؟! لعلاج هذا الخلل في الساق يقوم الطب السائد اليوم بفحص الساق، عصبها، عضلها، وأي شيء فيزيولوجي أو بيولوجي، وحتى العادات التي قد تؤثر على الساق، ومنها النوم والجلوس والمشي والعمل والرياضة، ونوع الحذاء... أين دور فقدان النظر في إحدى العينين هنا؟
إذا اعتمدنا وحدة المادي والمعنوي، أو الملموس والمجرد، في الإنسان، فيمكن القول: إن الجسد هو في النهاية الجسد الاجتماعي المعاش، والتفاعل معه يحصل عبر التفاعل مع انعكاسه في الوعي الفردي. هنا، إن فقدان النظر في إحدى العينين سيجعل الصورة المنعكسة للجسد في الوعي تعاني إهمالاً نسبيا عن غير قصد لذلك القسم من الجسد الذي لا يغطيه النظر بالمعنى النفسي، أي من ناحية العلاقة النفسية معه. عندها قد ينتقل الثقل النفسي لصورة الجسد المعاش في الوعي إلى القسم الواقع تحت النظر المتاح. وهذا ما يعطي هذا القسم دورا أعلى من الناحية النفسية في العلاقة مع العالم وفي النشاط. من هنا سيحمل هذا القسم تركيزاً نفسيا أكبر وستعاني الساق في هذا القسم من الجسد من ضغط أعلى، وبالتالي إجهاداً أعلى. هذا ليس إلا مثال ربما قد يَظهر تطرفاً في الفكرة، ولكن لماذا لا يمكن تقبّله أو حتى التفكير فيه؟ هذا يفتح على باب واسع من التصورات الجديدة عما يمكن أن تنتجه تلك الوحدة الجدلية المعقّدة للإنسان. هذا يعيدنا إلى الباحث السوفييتي ألكسندر لوريا الذي كتب كتاباً خاصاً (عقل إنسان ذاكري، كتاب صغير حول ذاكرة عظيمة) عن حالة شخص يملك قدرة تصور وتخيلّ عالية قادرة على تغيير دقات قلبه، أو حتى رفع حرارة جسمه بشكل دقيق، وصلت إلى حد قدرته على تخفيض دقات قلبه إلى حد التوقف، أو حتى رفع حرارة يده اليسرى وتخفيض حرارة اليد الأخرى في ذات الوقت!

الانتقال بين عالمين: أية سياسة صحية؟

في لحظة انهيار العالم القديم، في علاقاته وأسسه المادية، نحن أمام تحوّل شامل نحو عالم جديد يتجاوز الانقسام والفصل بين طرفي العلاقة المذكورة أعلاه، كونه تجاوزاً للانقسام الطبقي نفسه، الذي هو أساس الانقسام الفلسفي. لا بل إن من شروط تجاوز الانقسام الطبقي هو تجاوز نسبي لانعكاسات هذا الانقسام في الفكر على فهم الإنسان ووحدته ووحدته مع المجتمع الملموس، من أجل القدرة على الوصول إلى هذا الإنسان وإلى تناقضاته وتقديم الإجابات عنها. ونحو العالم الجديد لا بد وأن سياسة صحية وفلسفة طبية ستقوم، أساسها التوجه نحو أسباب الأمراض القائمة اليوم، والتي هي في أصلها أمراض اجتماعية- تاريخية في نهاية المطاف. من السرطان، كتكثيف لانفجار طاقوي منفلت داخل الجسم، هو انعكاس لانقطاع التبادل الموضوعي (الاغتراب) بين الفرد والمجتمع، وتراكم التوتر وضغط الحاجات والاحباطات وانفجاراها في الجسد. إلى الفصام الذي هو انهيار للعقل وتفكك لصورة العالم والذات، وتعبير عن ذات الانهيار في علاقة فرد- مجتمع، وتهشّم الأدوار وتعطّلها، بينما هو “يعالج” اليوم بالعقاقير المثبطة أو المنشطة. لينتعش بذلك سوق العقاقير العصبية الضخم، كما أن القطاع الطبي يراكم أرباحاً مهولة، ربطا بأرباح قطاع التأمين، وأرباح القطاع الدوائي كلّه. وحتى لا ننسى، إن فقدان ثقة الغالبية بفساد القطاع الصحي السائد، جعلهم يتوجهون إلى فئة من المشعوذين والدجالين، هم من أكسسوار الإمبريالية، وذات علاقة الفصل إياها بين الملموس والمجرد، أو المادي- المعنوي. هؤلاء هم تجار الطب “الروحي” الرائج من يوغا وتأمل وطاقة إيجابية وحتى “خبراء الأعشاب”. هؤلاء هم المكمّل لعلاقة الفصل إياها، والجانب الآخر من عملة القطاع الصحي السائد.
وفي جوهر هذه الفلسفة الطبية :إعادة توحيد الإنسان من جهة، وتوحيد الإنسان مع المجتمع من جهة أخرى بعد قرون من الفصل والتفكيك، لا لتجاوز أمراض المجتمع الرأسمالي المأزوم فقط، بل لبناء سياسة صحية اجتماعية- تاريخية، قد تعيد صياغة العلوم الطبية بشكل جذري. فكما أن اضطرابات الشخصية قد تؤثر على عضلات الوجه والظهر والرقبة، فـ”إن أسباب الوفاة كثيرة، من بينها: وجع الحياة” على حد تعبير الشاعر المعروف.

معلومات إضافية

العدد رقم:
968
آخر تعديل على الإثنين, 01 حزيران/يونيو 2020 14:42