صناعة الطفولة  بيد شركات الكرتون
مروى صعب مروى صعب

صناعة الطفولة بيد شركات الكرتون

يتشكل وعي الإنسان عبر ثلاث مراحل عمرية، وهي: الطفولة، والمراهقة، ومرحلة النضج. تحمل كل منها تعقيدها الخاص المتغير بتغير البنى الاجتماعية والسياسية في العالم بالنسبة لما يعكسه العالم على كل مرحلة من هذه المراحل، وكيف يؤسس لها ولانتقالها إلى المرحلة التالية. ويتفق علم النفس على أن مرحلة الطفولة هي المرحلة المؤسسة للمراحل التي تليها، لأنها نسبةً للعمر تأتي أولاً: ولأنها المرحلة التي تؤسس لمعنى المحيط والعلاقة به ومعه.

كنا قد ذكرنا سابقاً، أن علم النفس كباقي العلوم غير متجانس في تعريفه واتجاهاته، علم النفس العلمي، يقول: إن الطفولة تُبنى عبر المحيط وتختلف من محيط لآخر، أمّا في علم النفس المثالي فلا يوجد اتفاق بعد على كيف يُبنى الوعي في الطفولة، منه من يربطه بعلم النفس الحركي، ومنه من يربطه بعلم النفس الفرويدي، ومنه من يربطه بالتأثير المزدوج للبيئة والتربية. ومن هذه التعريفات يأتي تكوُّن الطفل من وعيه وشخصيته ومشاعره، وبالتالي علاقته مع الآخرين من خلال تكون هذه العوامل، التي تدخل فيها العديد من البنى، مثل: تكون الثقة بالنفس، وتقدير الذات، وتكوّن الآليات الدفاعية، وتكون الشخصية في العام في ما تحمله من العوامل النفسية الأخرى التي تؤسس لفرد في المجتمع. وهذا ينعكس على تكوّن الاضطرابات التي تكون عالية في هذه المرحلة وتأتي تعريفاتها المتناقضة. فالاضطرابات الأكثر شهرة اليوم عند الأطفال هي نقص الانتباه والفرط في الحركة والتوحد، الأولى تعني: عدم الانظباط. والثانية: تعني التقوقع والهروب من الآخرين. تلعب اللغة دوراً أساساً في تكون شخصية الطفل وفي تكون اضطراباته، لأنه غير متمكن من اللغة بعد ولا يستطيع التعبير من خلالها لكي يعكس انزعاجه، أو اضطرابه، أو خوفه من أي عامل جديد.
وفي أي من المراحل العمرية للإنسان، يكون الخوف والذنب المحركين لأيّ تكون عند الإنسان، ولأيّ ردة فعل من المحيط. ولكن الفرق أن شعور الخوف والذنب يأخذ معناه وأبعاده في مرحلة الطفولة، وهذا المعنى هو الذي ينطلق منه الإنسان في المراحل التالية. بالطبع معنى الخوف والذنب لا يبقى ثابتاً عند الإنسان، لأن حركته وقدرته على التعبير تتغير مع تقدمه في العمر. فغلبة شعور الخوف والذنب هي نتيجة للضوابط الاجتماعية التي تُفرَض على الأطفال، ولكون الطفل في هذه المرحلة يتعرف على البيئة المحيطة به، فبالتالي هي بالنسبة له مبهمة وغير معروفة. ولكن هذا الشعور بالخوف والذنب ينعكس على أي قلق أو اضطراب يأتي لاحقاً، ليكون المحرك لهذه الاضطرابات والقلق.
وتكوّن وعي الطفل ينتقل من مرحلة إلى أخرى، إحدى هذه المراحل هي تقليد الآخرين، هذا موجود في تعلم الحركة (المشي والجلوس وتعابير الوجه) وتعلم الكلام وتعلم القيم الاجتماعية الموجودة. لهذا التركيز على تعليم الأطفال القيم الإيجابية في المجتمع مثل: المحبة، والكرم، والمساعدة، وما هو مسموح به وغير مسموح به عند التوجه للآخرين بالكلام أو الفعل، والتي تختلف من مجتمع إلى آخر، ولكنها ثابتة في ضرورة أن تكون إيجابية.
بناء الطفولة
العديد من العوامل تؤثر في بناء الطفولة، وهي اليوم في ارتفاع أكبر مما كانت عليه سابقاً. فلم يعد بناء الطفولة في كل ما يعنيه مرتبط بالعائلة، والمدرسة، والحي، وإمكانية اللعب، بل أصبح أيضاً مرتبطاً بالأطر الجديدة التي دخلت على مدى تأثيره. ويشكل الإنترنت والرسوم المتحركة أحد هذه العوامل، التي أصبحت بحكم الموجود في حياة كل طفل. ولكن الأكثر تأثيراً هي الرسوم المتحركة بسهولتها في الدخول على عقول الأطفال ولكونها تخاطبهم بشكل مباشر. وهي تعتبر اجتماعياً إحدى طرق تعليم الأطفال أو إلهائهم عن الانتباه المستمر الذي يحتاجون إليه. وإذا أخذنا التغير في الرسوم المتحركة، التغّير في المضمون وليس في التقنية نجد أنها تغيّر القيم المطروحة بحسب اللحظة التاريخية الموجودة فيها. فالتركيز في الرسوم المتحركة هو مثلاً على الحيوانات والأبطال الخارقين الذين يملكون مميزات أكبر وأوسع من مميزات الإنسان، أي: من مميزات الواقع المعاش. فتعكس عند الطفل الإيجابي والسلبي، الإيجابي في علاقته مع الطبيعة وتقليل خوفه من الحيوانات، والسلبي في تكون صورة مضخمة عن الواقع. وهي إحدى أسباب هروب الطفل من واقعه إلى الرسوم المتحركة، لأن الواقع لا يمكن له أن يعاش بنفس الطريقة، والواقع يحمل تناقضات أكبر من تلك الموجودة في الرسوم المتحركة. ولكن الأهم هو في القيم التي تعكسها الرسوم المتحركة في ذهن الأطفال، ومن الأمثلة الأكثر شعبية هي: توم وجري الذي يعتبر من أشهر الرسوم المتحركة، ولكنه يحمل كمية كبيرة من العنف والكره. خاصة أننا نعلم أن الطفل يتعلم من محيطه عبر التقليد أو العمل بالمثل، ويتعلم الصح من الخطأ أو الإيجابي والسلبي في العلاقات الاجتماعية من خلال ما يراه وتقليده له.
وبالعودة إلى الاضطربات الأكثر شيوعاً عند الأطفال وهي نقص التركيز وفرط الحركة والتوحد، فهي تعبر عن عدم إمكانية التعبير عند الأطفال، فالخوف يتم تفريغه إما بالفرط في الحركة أو بالانكفاء عنها. والرسوم المتحركة هي أحد السبل التي تعزز انكفاء أو فرط الخوف، فعبرها ينتقل الطفل من الواقع إلى الخيال، ومنها يبرر خوفه وذنبه بتقليدها والتماثل بها. فبالتركيز على بناء الطفولة وبناء الشخصية اللاحقة يجب تقليل الخوف والذنب في علاقة الراشدين مع الأطفال، لكي تمنحهم معنى أفضل ومريحاً أكثر، تمكنهم من التقدم ولكن بطريقة صحية أكثر.