الفساد والعسكرة...مأساة العلوم الأمريكية
لقد حولت الشركات والبنتاغون العِلم من قوة خلاقة من أجل التقدم البشري إلى قوة تقوم بتدمير ومعاداة البشرية.
كليف كونر عن مجلة المناخ والرأسمالية
ترجمة وإعداد مشعل شيخ نور
إن تخصيص يوم من أيام السنة بيوم الأرض يشير بالنسبة للعلم إلى المقاومة الهائلة للضخ اللاعقلاني لخطابات رؤساء أمريكات وخاصة خطابات دونالد ترامب، والذي أصبح فجأة وبشكل واضح الداعم الرسمي لإنكار أي شيء يتعلق بالتغير المناخي، وفي الوقت نفسه، يدرك العديد من المحللين الصلة التي تربط بين تهديد ترامب الغريب مع حالة موجودة من قبل، يُشار إليها أحياناً باسم «الحرب الجمهورية على العِلم».
ولكن المعضلة تكمن في جذور مأساة العلوم الأمريكية المعاصرة من خلال عسكرتها وخصخصتها، وهذه المشاكل بكل تأكيد لا تستطيع لا الأحزاب الديمقراطية ولا الجمهورية أن تقدم الحلول المناسبة لها.
وكان سيبدو غريباً وصف العِلم بأنه مأساة بالنسبة لمعظم الناس في النصف الأول من القرن الماضي. لقد كانت سمعة العِلم ذهبيةً حينها. كان عامة الناس مقتنعين بأن العِلم الحديث يمكن أن يحل قريباً جميع مشاكل البشرية.
وتلقت تلك الصورة البراقة ضربة مزدوجة خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال أهوال العِلم العنصري النازي، وما يقترن بها من تكنولوجيا الإبادة البشرية. وتبع ذلك ظهور العصر النووي، الذي قام بمحرقة فورية لأكثر من مائة ألف نسمة في مدينتين يابانيتين.
جذور المأساة
ربما كان انتشار واستخدام أسلحة الدمار الشامل، والتي أصبحت خارج السيطرة، أسوأ ما في ثمار العِلم المعاصر، ولكن الشيء الأكثر مأساوية من ذلك هو سوء استخدام العِلم، والذي أصبح يوماً بعد يوم يُهدد سلامة الأرض.
وهذه الأخطار والأخطار الأخرى لها جذور مشتركة: ففساد العِلم إلى حدٍ كبيرٍ مرتبطٍ بالمال. وبصورة أدق، فهي نتيجة لنظام اقتصادي مدفوع بالربح والذي يعيق قدرة البشرية على اتخاذ قرارات اقتصادية منطقية.
ويفترض أن يكون العِلم مصدراً موثوقاً للمعرفة، ويعتمد على الحقيقة الموضوعية بدلاً من التحيز الذاتي، ويتطلب ذلك إجراء الأبحاث بشكل محايد من قبل العلماء الذين ليس لديهم أي تضارب في المصالح، يمكن أن يؤثر على حكمهم. لكن العِلم الذي يُسَخَّر لتعظيم الأرباح الخاصة لا يمكن أن يتجنب تضارب المصالح الجوهرية التي تعتبر لعنة على الموضوعية.
العلوم الأمريكية والتميز الأمريكي
التركيز على العلوم الأمريكية ليس تحيزاً شوفينياً. فعِلم الولايات المتحدة هو أحد المكونات الرئيسة للعلوم العالمية، فالميزانية الفيدرالية للبحث والتطوير في الولايات المتحدة (R&D) أكبر من ميزانية ألمانيا وفرنسا وبريطانيا العظمى واليابان.
ولمجرد التفكير بأن العِلم الأمريكي قد يكون مأساوياً قد يزعج بعض القراء. إنه لا ينسجم على الإطلاق مع الاستثناء الأميركي، وهي بدهيات الأيديولوجية التي تسود في الخطاب العام للولايات المتحدة. حيث يغطي الاستثناء الأمريكي كل الأشياء الأمريكية بهالةٍ من الفضيلة والحصانة من الخطأ.
علاوة على ذلك، أليست الولايات المتحدة هي المكان الذي تم فيه إنتاج معظم الابتكارات العلمية والتكنولوجية في العالم؟ ماذا عن الطائرات؟ التلفاز؟ الكمبيوتر؟ الإنترنيت؟ آي فون؟ وهل لم يكن العِلم الأمريكي مسؤولاً عن التقدم الطبي؟ قد تمثل الحالة الراهنة للعِلم الأمريكي بعض الصعوبات والتحديات، لكن أليس من الخطأ الإجمالي أن نسميها مأساة؟ لسوء الحظ، الأمر ليس كذلك.
الشركة القابضة
مع نمو هيمنة الشركات على العلم والتكنولوجيا، تلاشى مبدأ البحث العِلمي الموضوعي تبعاً لذلك. أصبحت «العلوم الكبيرة» على نحو متزايد الخادم المؤكد لمصالح الشركات. ويُزعم أن الدراسات العلمية تدار بشكل روتيني من قبل أفراد ومؤسسات ذات حصص مالية كبيرة.
والكميات الكبيرة من النفط والفحم مَوَّلت دراسات تُنكر حصول التغير المناخي، وكذلك كيف كانت الشركات الكبرى للتبغ تُقلل من مخاطر التدخين وعلاقتها بسرطان الرئة.
لقد تم إعادة تصميم المنهج العلمي ليتناسب مع الواقع الجديد، وتشير الآن «الأبحاث القائمة على فرضيات» إلى صياغة المقترحات لتعزيز مصالح الشركات وتصميم الدراسات لتقديم الأدلة اللازمة لها، وتحظى التحقيقات التي تنتج شكلاً من أشكال الدعم للفرضية المطلوبة بمعاملة جيدة، أمام البحوث التي تعمل عكس ذلك فمصيرها إلى حاوية القمامة.
ومهما كانت نتائج هذه الأبحاث، فهي في أفضل الأحوال غير جديرة بالثقة. ومع ذلك، ومع تشجيع المشرّعين المرتشين ووسائط الإعلام المحترفة، تشكل العلوم الموجهة للربح، الخطاب العام والسياسة العامة التي تؤثر سلباً على بيئتنا وصحتنا.
مأسسة العلوم من أجل الربح
هناك أصوات عقلانية في الخطاب العام أثارت المخاوف والتحذيرات حول فساد العلم من قبل أصحاب المال، لكن الأصوات التي تخدم مصالح الشركات قد أغرقتها. من خلال تشويه الوقائع وجعلها غير عقلانية.
إن التلاعب الذكي بنتائج البحث لخدمة المصالح التجارية الخاصة هو مناهض للعلم، وإن القوى المناهضة للعِلم لها دعم مؤسساتي قوي في الولايات المتحدة، وأهمها: المؤسسات السياسية الأساسية.
كانت إحدى النتائج الخطيرة، ضعف التنظيم الحكومي للأنشطة التجارية التي تلوث الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله والأدوية التي نتناولها. وقد انخفضت بشكل ملحوظ قدرة وكالة حماية البيئة وإدارة الغذاء والدواء على توفير الرقابة التي صُممت لتوفيرها. وتتعهد عصابة ترامب بتسريع هذا الاتجاه.
عسكرة العلوم الأمريكية
لكن التشويه الأكثر مأساوية للعلم الأمريكي هو نتيجة لعسكرتها المتطرفة. انفجر العِلم الكبير (وهو مفهوم يستخدمه العلماء ومؤرخو العلوم لوصف التغيرات التي طرأت على العلوم في الدول الصناعية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت الاكتشافات والمنجزات العلمية تتم عبر مشاريع ضخمة ممولة من قبل الدولة أو المؤسسات، بعد أن كانت تُنجز بواسطة مجموعات صغيرة وجهود بسيطة، وسمى هذا بالعِلم الصغير) على الساحة نتيجة لمشروع مانهاتن خلال الحرب العالمية الثانية. تم التحقق من نجاحه من خلال السُّحب الفطرية التي ارتفعت فوق هيروشيما وناغازاكي في آب 1945.
تتمثل المهمة الأساسية للعِلم الأمريكي في إيجاد طرق جديدة وأكثر فاعلية لقتل الناس من القنابل النووية الحرارية، إلى الروبوتات غير المأهولة، والذخائر العنقودية، والأنواع الكثيرة من الأسلحة المضادة للأفراد.
إن العلوم والتكنولوجيا، بدلاً من أن يكونا محركين مُبدِعَين للتقدم البشري، أعيد توجيههما نحو غايات مدمرة ومعادية للإنسان.
الدليل موجود في الميزانية الأمريكية، حيث كان أكثر من نصف تمويل البحث والتطوير- الذي بلغ تريليونات الدولارات على مدار العقود الماضية- مخصصاً للأغراض العسكرية.
تخيل، على النقيض من ذلك، ما يمكن تحقيقه إذا كانت كل تلك الأموال وكل هذه المواهب العلمية موجهة نحو إيجاد حلول للمشاكل الحاسمة التي تواجه الجنس البشري اليوم، مثل: الفقر والجوع والمرض والخراب البيئي. لكنهم ليسوا كذلك، وإذا لم تكن هذه مأساة، فإن الكلمة لا تحمل أي معنى. في هذه الأثناء، فإن الإنفاق الضخم على الحرب يُولد إنتاجاً هائلاً للأسلحة، يُولد عدواناً متصاعداً يتسبب في مأساة إنسانية.
وتتعمق المأساة أكثر مع إدراك أن هذه مشكلة لا يمكن حلها- على الأقل ليس في سياق الواقع الأمريكي الحالي. ويرجع ذلك إلى استبداد الاقتصاد الأمريكي وإدمانه على الإنفاق العسكري.
لكن المجتمع الأمريكي، كما هو مبني حالياً، عاجزٌ تماماً عن كسر إدمانه على النزعة العسكرية. إن الإنفاق الحربي في الاقتصاد الأمريكي أشبه بورم لا يمكن علاجه ومقدر أن ينمو بشكل لا يمكن السيطرة عليه حتى يقتل صاحبه.
وإذا كانت الولايات المتحدة تحكمها ديكتاتورية عسكرية، فإنها ستكون مفهومة، لكن هذا ليس هو الحال. الاعتقاد بأن البنتاغون يقود العملية وهذا أشبه بالذيل الذي يهز الكلب وليس العكس.
في الولايات المتحدة اليوم، إذا توقف البنتاغون عن توفير سوق اصطناعي عملاقٍ للإنتاج الصناعي، فإن ملايين العمال- وليس عمال مصانع الدفاع فقط- سوف يفقدون مصادر رزقهم. فبدون رواتبهم، لن يكونوا قادرين على شراء السلع أو الخدمات، وستتوقف عجلات الاقتصاد بسرعة. لن تكون النتيجة مجرد تكرار للكساد العظيم، بل ستكون النهاية النهائية للاقتصاد العالمي الحالي.
التفكير الإبداعي
هل يبدو أن الوتيرة السابقة من العِلم تدل على هلاك لا يمكن تجنبه وتدمير للنظام الاجتماعي بأكمله؟ قد تبدو أن المأساة الحالية للعلوم الأمريكية تؤدي إلى طريق مسدود ميؤوس منه، لكن هناك مخرج.
ليس من السهل الخروج. لفهم ذلك يتطلب بعض التفكير الجاد خارج الصندوق. في هذه الحالة، يكون الصندوق هو النظام الاقتصادي القائم على السوق، والذي يُحركه الربح، والذي يعتبره جميع المعلقين والأيديولوجيين الأمريكيين أمراً مفروغاً منه، كما لو أنه لا يوجد نظام بديل ممكن أو حتى يستحق الذكر.
هذه المناقشة ضرورية للخروج من دوامة الحرب والإنفاق الحربي. المناقشة بالتأكيد ليست كافية. إذا لم تؤدِّ الكلمات إلى التنظيم والتطبيق العملي، فستظل المشكلة دون حل.
أحد عناصر هذه المناقشة هو: ما إذا كان من الممكن إعادة توجيه العلوم والتكنولوجيا من الأغراض المدمرة إلى الإبداعية عن طريق تحويل النظام الاقتصادي. ولحسن الحظ، يُقدم التاريخ بعض المؤشرات المهمة عن كيف يمكن للعِلم الحقيقي غير المقيد أن يتصرف في اقتصاد ما بعد الرأسمالية. إن فحص هذا التاريخ يدل على أن التقدم العلمي، ليس كما يدعي الأيديولوجيون المؤيدون للرأسمالية، يعتمد على الحوافز المادية للمؤسسات الخاصة. وأكثر الأمثلة المشجعة هي العلوم الطبية الكوبية.
الخاتمة
مأساة العلوم الأمريكية اليوم هي: أن اتجاهها يتحدد باعتبارات الربح الخاص، وليس عن طريق الرغبة في تحسين الحالة الإنسانية.
وإن إدمان الاقتصاد الأمريكي على الإنفاق العسكري يُشوه العِلم بجعله خاضعاً بشكل كبير للمصالح العسكرية.
إن الهدف من كل هذا هو: أن استبدال نظام العِلم الحديث المكرس للربح بنظام عِلمٍ يُلبي احتياجات الإنسان، لكن لجعلها حقيقة واقعة، يتطلب ذلك إعادة هيكلة أساسية لمجتمعنا. هذا هو التحدي الكبير والصعب الذي يواجهه شباب اليوم والأجيال القادمة.