العقل الخالص في بلاد العجائب الرأسمالية
تحاول الرأسمالية إبهارنا بمقولات تظهر المجهود الأيديولوجي لحرسها الفكري ولجوقة المردّدين، ولكن التّعمية التي كان يمكن القيام بها في بدايات الرأسمالية لم تعد ممكنة في مرحلة تعفّن النظام العالمي للرأسمالية.
إن طابع التعمية عبر الإبهار، تحوّل في جوهره إلى عملية إنكار للواقع، وكل ما يجري الحديث عنه عبر ممثلي الرأسمالية، يظهر وكأنه متجه إلى الغيب، ففيه وحده يمكن للرأسمالية أن تثبت إمكانية وجودها العملي، في عالم غير الواقع الذي كما قال عنه ماركس يوماً: أنه يقطر دماً من رأسه حتى أخمص قدميه.
اقتصاد المعرفة
من هذه المقولات هي: اقتصاد المعرفة المقدّم بشكل مقصود فيه التأثير المعنوي وإبهار المتلقّين بحديث عن عالم مليء بالمعرفة والإبداع والإنتاج الفكري، ودغدغة عقول القوى الاجتماعية الطامحة لأي جديد مضاد للتدهور الذي يعيشه العالم الرأسمالي فعلياً. وجوهر هذا المفهوم هو: أن إنتاج المعرفة سيكون هو طابع الاقتصاد في عصر المعلومات والتكنولوجيا بدل التصنيع والزراعة، وسيكون هذا إنتاجاً مصدراً للوفرة والتحديث والنمو غير المتناهي جراء الاستعمال والمشاركة، بدلاً من اقتصاد الندرة والقلّة والاحتكارات والحدود الضيقة المغلقة، وما هو أهم: أن رأس المال الفعلي في هكذا اقتصاد يكمن رأس المال البشري حسب زعم «مستشاري» اقتصاد المعرفة! وكل ذلك محمول على «تجاوز الاقتصاد الإنتاجي الصناعي أو الزراعي» الذي يعبر عن الصفات «السلبية» التي يكون اقتصاد المعرفة حلّا لها كما يقولون.
الرسالة الكامنة
ما تحمله المقولات المروج لها ارتباطاً باقتصاد المعرفة أولاً: إن الرأسمالية -وهم لا يقولون الرأسمالية بل الإنتاج الصناعي والزراعي مثلاً- والأمراض الناتجة عنها قد تخطاها التاريخ نحو عصر المعلومات والتكنولوجيا والذكاء والمعرفة، ما يعني: أنهم يقولون لمن يطرح تغيير الرأسمالية: كفّوا عن كل تحليل مرتبط بهكذا اقتصاد لم يعد موجوداً. ثانياً: تحمل هذه المقولات دغدغة لكل القوى الطامحة لحلول القضايا القائمة فعلياً من خلال إظهار أن عصراً جديداً يمكن قيامه بعد تأسيس اقتصاد «انتصار العقل والذكاء»، وهذا شعار جاذب لا محالة. ومن خلال الكلام عن انفتاح الحدود وغياب المسافات، والجغرافيا في الاقتصاد القائم على المعرفة، يتلاقى مباشرة وفي الجوهر مع النيوليبرالية التي طغت في النصف الثاني من القرن الماضي في العولمة المالية، والشركات العابرة والنهب المالي وضرب الاقتصاد الوطني للدول، والمنتج الفعلي تحديداً، خصوصاً أن التنظير لاقتصاد المعرفة تبلور في ستينات القرن الماضي، يا للمصادفة.
التناقضات الفاقعة
الطرح من أساسه متناقض مع نفسه، فهو عندما يشدد على أهمية الإنتاج المعرفي في المشاركة وضرب الاحتكار الذي كان عليه الاقتصاد المنتج الصناعي والزراعي، يعود لاحقاّ ليطرح مقولات: كالمنافسة في السّوق، ويعلن أيضاً أن قيمة المعرفة لا تتحقق إلّا من خلال التبادل.
إذاً: المنافسة والتبادل المذكوران أين يحصلان وضمن أي علاقات؟ أليست السوق الخاضعة للتوظيفات الرأسمالية المالية الكبرى؟ أليس النظام الإمبريالي نفسه والصراعات فيه حاكماً لأية معرفة منتجة إن كانت في صالحه، أم كانت على العكس ضمن محاولة كسر سيطرته من قبل اقتصادات تحاول تطوير منتجها المعرفي لتطوير نموها وسيرها في طريق فك الارتباط بالإمبريالية صناعياً وزراعياً؟ أليس هذا ما يقصد به، «براءة»، بالمنافسة؟
إضافة إلى ذلك عن أي تطوير حر لرأس المال البشري يجري الكلام؟ أليس العاملون في مجال البحث والتعليم والإنتاج العلمي والمعرفي يخضعون في بقائهم وحياتهم تمويلياً لصالح الشركات الكبرى، أو الحكومات المرتبطة بدورها بطبيعة الاقتصاد العالمي، تابعاً كان أم يصارع من أجل الجديد، ما يعني: أن اقتصاد المعرفة لا يطور من ذاته رأس المال البشري، بل إن موقع المعرفة في النظام السياسي الاقتصادي، ومن يملك وسائل الإنتاج (احتكار ونهب فائض القيمة أم ملكية عامة) هو ما يجعل منتجي المعرفة في تطور مع تطور المجتمع لا ضمن قيود الربح الخاص. ثم ما هي هذه المنتجات التي ستتجسد فيها المعرفة، وتجد من خلالها قيمتها التبادلية، أليست القطاعات الاقتصادية الحقيقية كتطوير المزروعات والصناعة العسكرية أم الذكية الحديثة وتخفيض كلف الإنتاج الحقيقي؟
القائلون باقتصاد المعرفة لا يذكرون صراحة أن اقتصاد المعرفة لا يمكن إلّا أن يخدم الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي، سلعاً قابلة للاستهلاك الإنساني المادي، وفي إنكارهم هذا يحققون الحيلة المطلوبة، وهي: تمويه العلاقات الرأسمالية من جهة، ومن جهة أخرى اصطناع صنم جاذب جديد، هو في مضمونه يعلن الاعتراف بتعفن ليس الاقتصاد الحقيقي بل الاقتصاد الرأسمالي نفسه.
يريد منظرو اقتصاد المعرفة أن يقنعونا بأن: كل الإنتاج الإنساني منذ انتقال البشرية من الالتقاط إلى الصيد إلى الزراعة واستعمال الأدوات المعقدة والتصنيع الحرفي والصناعي الآلي، فالتصنيع الحديث، كلها وفي جوهرها نقلات معرفية علمية! وهي بجانب منها كذلك، ولكن ضمن أي سياق موضوعي إنتاجي؟ وهل هذا يعني أن عملية تطور المعرفة تنفصل عن عملية تطور الإنتاج؟ وهل يعني أننا سنستطيع أن نحقق نقلات معرفية، دون أن نغير من طبيعة علاقات الإنتاج، وتحديداً طبيعة التحكم به وبملكيته، وبالمعارف الناجمة عنه؟ إن المعرفة لا يمكن أن تنفصل عن سياق العلاقات الإنتاجية الاجتماعية المنتجة لها، إلّا إذا كانت كما يفترضون في عصر «العقل الخالص» الذي بشّروا ويبشّرون به ستباع، آه عفواً، سيتم توزيعها على الطرقات في صناديق خشبية لها فتحات سنتنشق منها المعرفة الخالصة!