نوبل: (القاضي والجاني في العلوم»
مروى صعب مروى صعب

نوبل: (القاضي والجاني في العلوم»

في ثلاثينات القرن الماضي، طرح ولهلم رايش علاقة جهاز المناعة بظهور السرطان، وقال بما معناه: أن تراكم القلق الاجتماعي والجنسي عند الأفراد يؤدي إلى خلل في جهاز المناعة الذي يتحول شيئاً فشيئاً إلى خلية سرطانية. هذا القلق الذي يتراكم على شكل طاقة، كون الإنسان في علاقته بمحيطه وبداخله يقوم بنقل الطاقة من الخارج إلى الداخل ومن الداخل إلى الخارج. لذلك كانت معالجة رايش للأمراض الجسدية والنفسية تتم عبر إخراج الطاقة المتخثرة في الجسد إلى الخارج، أو عبر إخراج القلق الاجتماعي والجنسي من داخل الجسد إلى خارج الجسد. وقد شدد رايش على السرطان كونه كمرض– أي: تخثر الطاقة داخل الجسد– يعبر عن طريقة عيشنا (المتمدنة» (الرأسمالية) التي بحسب رايش تكبت علاقة الإنسان بالمحيط.

 


اعتبر رايش لاحقاً مجنوناً، وغابت أبحاثه عن معظم إن لم يكن جميع أبحاث السرطان، وتحول من مثير للجدل و»للمشاكل» إلى منفي من حقل في العلوم.
نوبل لجهاز المناعة
بعد عدة عقود على ما حاول القيام به رايش وعلى نفيه واتهامه بالجنون، يعاد البحث في جهاز المناعة وعلاقته بالسرطان إلى الواجهة، الذي توج بجائزة نوبل في الطب عن هذا العام، ذهبت إلى باحثين استطاعوا وقف عملية الكبح التي تمنع جهاز المناعة من مهاجمة خلايا السرطان. العملية التي تحتاج إلى أبحاثٍ دقيقة أكثر قبل أن تتحول إلى دواء لمعالجة أكبر عدد من السرطانات، خاصة أن جهاز المناعة مرتبط في قوته وقدرته على العمل تحت تأثيرات متعددة.
وهذا ما يقع فيه العلم السائد عند محاولته العمل على جهاز المناعة أو محاولته استيعاب كيفية عمله بتفصيلات أكثر. أي: الفصل بين كيفية تطور جهاز المناعة عند البشر والفرق في هذا التطور بين شخص وآخر، وعلى أي أساس يتطور، وما يقوي جهاز المناعة وما يضعفه. وهذا ما تحدث عنه رايش عندما ربط مرونة جهاز المناعة وقدرته على التحمل بالعوامل الاجتماعية والجنسية عند الأفراد. وعندما ربط التخلص من تكاثر الطاقة السلبية من الجسد بتقوية جهاز المناعة. بينما الأبحاث الحالية التي تحاول دراسة عمل جهازالمناعة والأمراض، مثل: السرطان، التي لا يتعاطى معها جهاز المناعة على أنها (غريبة» عن الجسد، ولذلك لا يعمل على إيقافها، تدرسه بانفصاله عن علاقته بالخارج (النظام الاجتماعي) الذي يؤدي إلى تقويته أم يبقيه ضعيفاً ومعرضاً لخضّات كثيرة. لذلك لم يستطع العلم السائد إلى اليوم إيجاد حلّ للسرطان من خلال جهاز المناعة لأنهم يتعاطون معه من باب آلية ثابتة وغير متحركة، لا تتأثر باستمرار بالعوامل الخارجية-الاجتماعية.
القاضي والجاني
يسمح لنا العلم السائد بنقضه عند كل محطة جديدة، لا لكونه ضعيفاً في إنتاجه الجديد، بل لانه بتخبطٍ مستمرٍ محاولاً الخروج من الظلام. وهو نفسه القاضي والمتهم في آن، فهو المحدد لما يمكن ولا يمكن بحثه وكيف وما هو مسموح علمياً وعالمياً، وما هو غير مسموح من جهة، ومن جهة أخرى في كونه هو من يقيم منتجاته العلمية المتلائمة مع خلفيته تجاه أية فكرة أو بحث، وهو من يحدد من يفوز بجائزة نوبل ومن يقوم بالأبحاث ومن يقوم بالنشر، غير مدرك (أو مدرك!) أن بعده عمّا يحتاجه الناس في المباشر قد أدّى إلى ملايين الضحايا، ليس من الأمراض فقط، بل من طريقة العيش والتعاطي مع الواقع. مثلاً في موضوع جهاز المناعة، درج في السنوات القليلة السابقة عدم الاعتراف بجهاز المناعة وبعلاقته مع المحيط، وبعدم الاعتراف باللقاحات، الذي أخذ رواجاً خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث هم السباقون! وكأننا نشاهد مسرحية من ممثل واحد، يلعب الأدوار جميعها، دور المأزوم ودور من يجد الحل ودور الفاسد. وهكذا لن يمكنه الخروج من الظلام، لارتباطه بمن يؤمن له هذه القدرة على التلاعب، وهذه القدرة على لعب الأدوار جميعها.
التفكيك سيّد الموقف
تحدثت مقالات سابقة في قاسيون عن منطق التفكيك الذي يستند إليه العلم السائد، وعن منطق الفصل في القضايا والعلوم. مثلاً: جائزة نوبل ذهبت إلى باحثين قاموا بهذه الأبحاث بطريقة منفصلة، وصدفة كانت أبحاثهم متطابقة. منطق التفكيك هذا يؤدي إلى فصل الأبحاث عن بعضها، والاعتراف بتلك الصادرة عن صُرحه العلمية أو البحثية. وأوضح مثال أنه علينا في 2018 العودة إلى الصفر في الحديث عن جهاز المناعة، وعن لماذا لا يمكنه التأقلم مع أي جديد في الجسد.
رايش كما غيره ممن انتمى إلى حقبة صعود الاشتراكية، ونُفِيَ من العلم ونُفي من الذاكرة. لكون العلم السائد لا يمكنه حمل مثل هذه الكلية في الأبحاث، ربط النفسي والجسدي والاجتماعي والسياسي في إطار واحد. من جهة لكونه غير قادر على رؤية هذا الربط، ومن جهة أخرى لكونه غير قادر عن الخروج من فرديته، وعمّن يحكمه بالمال والفرص والسياسة. يقول أحد فائزي الجائزة: (لم أكن أحاول إيجاد دواءٍ للسرطان بل كنت أحاول فهم عملية جهاز المناعة»، أي: أنه حتى في بحثه كان غائباً عن مكان عمل هذا الجهاز، وكان مُغيّباً لأي ربط بينه وبين عوامل أخرى. هكذا يعمل العلم السائد، وهذا ما يؤدي إلى تراجع سرعته في الوصول إلى حلول، وهذا ما يجعله محاصراً في الدائرة نفسها، حدود الرأسمالية.