التغيير البيئي العالمي

التغيير البيئي العالمي

ليس من المستغرب، ولا هو مثير للجدل بشكل خاص، التأكيد على أن التّغير البيئي العالمي والتّغير المناخي هما من بين أكثر القضايا الملحة بالنسبة للأرض ومجتمعاتها الحيوية .إنّ العوامل البشرية الرئيسة لهذا التغيير، وفقاً للهيئة الدولية المعنية بتغير المناخ، هي عوامل ديموغرافية واقتصادية واجتماعية_ سياسية وتكنولوجية في طبيعتها. ولا يمكن ربط هذه المحركات بشكل وثيق إلّا بالطرق التي تنتج بها المجتمعات القائمة وتعيد إنتاج وجودها المادي.

مع استمرار ارتفاع درجة حرارة المناخ، لا تصل التأثيرات السلبية فقط إلى ضياع التنوع الحيوي، وتفتت الموائل، وارتفاع مستوى سطح البحر، واختلال توازن الكتلة الجليدية، وسمك الجليد البحري، والغطاء الثلجي، بل إلى سلوك الأنظمة الحيوية كذلك. على المستوى الإنساني يؤثر تغير المناخ سلباً على الإنتاج الزراعي، وعمليات التنمية، والصحة، والعافية، والموارد المائية؛ غالبا ما تؤثر على المجتمعات الفقيرة والتابعة بطرق مؤثرة بشكل أكبر.
مع استمرار ارتفاع درجة الحرارة_ التي يمكن قياسها الآن خلال فترة حياة بشرية واحدة_ أصبحت الأفكار المتعلقة بالدرجة التي تحكّم بها الأثر البشري على تقلب المناخ الطبيعي أكثر تسييساً. عندما تكون للوائح البيئية القدرة على التأثير على الأنشطة الصناعية البشرية والحد منها، وحيثما تقوم الأنشطة الصناعية_ في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي_ بالتحكم إلى حدٍ كبيرٍ في عمليات صنع السياسات من خلال الضغط المكثف، والتلاعب السياسي، وتعيين مالكي الصناعة في مناصب سياسية، يقل الأمل في سياسات فعالة.
إسقاط الحكومة
في ظل الرأسمالية، وخاصة في الولايات المتحدة، تتمتع الأعمال التجارية «بعلاقة خاصة مع الحكومة». ووفقاً لعالم العلوم السياسية في جامعة ييل تشارلز ليندبل: «يعرف المسؤولون الحكوميون ذلك. إنهم يعرفون أن الفشل على نطاق واسع في الأعمال التجارية... سيؤدي إلى إسقاط الحكومة. وبالتالي، فإن صانعي السياسة الحكومية يبدون قلقاً دائماً بشأن أداء الأعمال».
ومع ذلك، فإن الإنتاج الرأسمالي، كما لاحظ كارل ماركس في الرأسمال، «يخلق أيضاً الظروف المادية لتركيب جديد وأعلى، اتحاداً للزراعة والصناعة على أساس الأشكال التي تطورت خلال فترة عزلتها المعادية.” وبمعنى آخر، فإن الرأسمالية، بسبب إخفاقاتها، لا تجري فقط تحسناً تاريخياً واجتماعياً وتطوراً على الاقتصاد الاجتماعي الإقطاعي_ الإقطاعي الذي تستبدله، بل إنها تحتوي أيضاً في حد ذاتها_ كطريقة إنتاج_ على بذور مستقبل اجتماعي للإنتاج؛ يجري العمل عليه لتحقيق الحتمية التاريخية. وكما أشار أنطونيو غرامشي، «يحتوي في حد ذاته على المبدأ الذي يمكن من خلاله استبداله”.
إن أوجه القصور، فضلاً عن المخاطر، لنمط الإنتاج الحالي لا ترتبط فقط بالاستغلال الاجتماعي المستشري، ولا ضمن الاستغلال البيئي؛ ولكن ضمن الصدع الذي حدث بين المجتمع البشري والأرض بشكل عام. لاحظ جون بيلامي فوستر، عالم السياسة وعالم الاجتماع، المعروف بعمله الثاقب في نظرية ماركس حول الصدع الاستقلابي، ما يلي:
“لقد استخدم ماركس مفهوم» الصدع «في العلاقة الاستقلابية بين البشر والأرض لالتقاط الغربة المادية للبشر داخل المجتمع الرأسمالي من الظروف الطبيعية التي شكلت الأساس لوجودهم_ ما سماه» الطبيعة الأبدية_ الحالة المحددة من وجود الإنسان.
لم يؤدِ هذا الصدع في العلاقة بين الجنس البشري والأرض فقط إلى النمط الرأسمالي للإنتاج، الذي يواصل تدمير النظم البيئية والإنسانية والسكان في السعي من أجل الربح؛ ويواصل دفع عملية صنع السياسات البيئية الرجعية بطرق لا تعمل إلا على إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية القائمة للإنتاج والطاقة، فضلاً عن الوسائل الاقتصادية للإنتاج والتوزيع.
بعد موجات من القوانين التي طردت الشعوب من الأراضي المشتركة نحو السواحل ونحو مراكز المدن ذات الكثافة السكانية المتزايدة، تقودها الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المتغيرة، فإن الإنتاج الرأسمالي، كما لاحظ ماركس، قام بشيئين:
1_ «ركز القوة الدافعة التاريخية للمجتمع» بعيداً عن المزارع إلى المدن، وبالتالي خلق الظروف الاجتماعية السياسية لبنية طبقية جديدة، مع البرجوازية الناشئة على القمة؛
2_ «أقلق التفاعل الاستقلابي بين الإنسان والأرض، أي: منع العناصر المكونة التي يستهلكها الإنسان في صورة طعام وملابس من العودة إلى التربة».
في عالم محدود، بموارد مادية محدودة في الأساس، وفي ضوء أسلوب إنتاجي يستند إلى منطق الربح والنمو مهما كان الثمن، رأى ماركس الصدع في عملية التمثيل الغذائي بين الكائن البشري والأرض، ليس فقط الفشل الأساسي في الطريقة الإنتاجية الرأسمالية، ولكن أيضاً في الآلية التي يمكن من خلالها استبدال الرأسمالية.
لم يكن مثل هذا الصدع، بالنسبة لماركس، مستداماً بيولوجياً ولا اقتصادياً، ومن هذا المنطلق قد يؤدي إلى زواله، وكذلك إلى تجاوزه، نحو استدامة بيئية واقتصادية جديدة. مثل هذه الاستدامة كانت، بالنسبة لماركس، ممكنة فقط من خلال التنشئة الاجتماعية للنظام السياسي وصنع السياسات والحكم. في هذا الصدد، لاحظ ماركس أن:
“الحرية، في هذا المجال، يمكن أن تتكون فقط في ذلك الإنسان الاجتماعي، والمنتجين المرتبطين به، حيث يتحكم الاستقلاب البشري بالطبيعة بطريقة عقلانية، ليجعلها تحت سيطرته الجماعية بدلاً من أن يهيمن عليها البعض كقوة عمياء؛ ويمكن تحقيق ذلك بأقل قدر من الطاقة وفي الظروف الأكثر جدارة ومناسبة لطبيعة البشر.”
مثل هذا الحكم اجتماعيا يتطلب سياسات موجهة مادياً ومن حيث الهياكل السياسية، ويتطلب بنيةً فكريةً تركز على أهداف، مثل: الاستدامة البيئية والوئام الإنساني مع نظام الأرض، وتفكيك منطق الربح الذي يوجه حالياً الاهتمام السياسي والإنسان.
وحدة وصراع الأضداد
كان الترابط الاستقلابي والترابط بين الكائن البشري والأرض بالنسبة لكارل ماركس، كما لوحظ في رأس المال:
“عملية بين الإنسان والطبيعة، وهي عملية يقوم بها الإنسان، من خلال تصرفاته الخاصة، يتوسط، ينظم، ويسيطر على التمثيل الغذائي بينه وبين الطبيعة... من خلال هذه الحركة يتصرف في الطبيعة الخارجية ويغيرها، وبهذه الطريقة يغير بنفس الوقت طبيعته الخاصة. “
مثل هذا التمثيل الغذائي كان بالنسبة لماركس، ليس مجرد فكرة مجردة ولكنها تستند إلى مفهوم ماديّ للهوية بين الكائن الحي والبيئة “. مثل هذا المفهوم، بالنسبة لماركس، كان جدلياً ضمنياً: «وحدة وصراع الأضداد.
وهكذا كان السعي نحو استقلاب ديالكتيكي إيجابي ومستدام بين النوع البشري والأرض، بالنسبة لماركس، محوراً مركزياً للنظرية الشيوعية السياسية بأكملها_ نظرية «تختلف عن جميع الحركات السابقة في أنها تقلب أساس كل علاقات الإنتاج السابقة.
انقراض الهولوسين
العالم المتغير لا يتطور في وجود إنسانية ثابتة؛ بدلاً من ذلك، بل هو عالم متغير يؤثر على أنواع ساكنيه ويعدلها. يبرهن انقراض الهولوسين، الذي يجري حالياً، على أنه في ضوء عالم متغير، تتكيف الأنواع إمّا بشكل تدريجي أو تهلك بشكل جماعي. فيما يتعلق بالسياسة البيئية، والتحقيق السياسي، والحكم الاجتماعي، ينبغي على المنظرين وصانعي السياسات أن يحولوا انتباههم نحو صياغة سياسة مبنية على مفهوم للعالم يختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم الرأسمالي الحالي للعالم، على أنه منفصل ومستقر
العالم بالنسبة للرأسمالي، موجود كما لو أنه مجموعة من الموارد يمكن استغلالها لتحقيق الربح من طبقة مهيمنة.
لا يمكن لصانعي السياسات والمُنظرين السياسيين إحراز تقدم من خلال تغيير الأفكار والمفاهيم وحدها؛ يجب أن يتعايش هذا التغيير مع إعادة هيكلة سياسية اقتصادية جذرية:
“من خلال عمل الأفراد في إخضاع هذه القوى المادية مرة أخرى لنفسها وإلغاء تقسيم العمل. هذا غير ممكن دون المجتمع.
وهناك تجارب ناجحة لأنظمة سياسية تتعامل بنجاح مع التغيرات السريعة في المناخ، مثل: الصين وكوبا. في خِضمّ عالم سريع التغير، يعاني من الانقراض الكبير.
علينا أن نعمل نحو هدف أكبر؛ هو التكيف والاستجابة التقدمية لعالم يمر بتغيير سريع، حتى نضمن وجوداً مستداماً لأبناء البشرية طوال فترة بقاء الأرض لنا.