حصار علمي مُطْبقٌ حول عنق الرأسمالية
تزداد وتكثر الخلافات العلنية في الولايات المتحدة الأمريكية بين السلطة السياسية والمجتمع العلمي، وهذه المرة استكمال الخلاف حول قضية المناخ وتفسيرها العلمي.
جدل في الكونغرس حول المناخ
بعد الخلافات السابقة حول إيقاف أو تخفيض التمويل في عدة مجالات بحثية، وحول التعيينات في المناصب والمسؤوليات العلمية، وكذلك حول الخروج من اتفاقية باريس للمناخ، برز على السطح الخلاف ذو الطابع العلمي في الولايات المتحدة، ضمن جلسة لجنة ممثلي العلوم والفضاء والتكنولوجيا، الشهر الماضي، المخصصة لنقاش دور التكنولوجيا في المساهمة في قضية ارتفاع الحرارة العالمي، وضمناً قضية ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات حسب مقالة منشورة على موقع «علوم» الشهر الماضي.
عنوان الجدل
احتدم الجدل بين علماء المناخ وبين ممثلي السلطة السياسية(النواب) حول تفسير أسباب ارتفاع حرارة الأرض، فبينما يدور النقاش العالمي اليوم حول دور استهلاك الوقود الأحفوري والانبعاثات الكربونية وانخفاض الغطاء النباتي بشكل حاد في ارتفاع حرارة الأرض، جرت في الجلسة محاججة ورفض من قبل ممثلي السلطة السياسية لهذه الأسس المتوافق عليها عالمياً، وذلك لحرف النقاش عن الأسس الاقتصادية والسياسية الرأسمالية للمأساة البيئية الطبيعية.
حيث “قدم الجمهوريون شكوكاً” حول الأسباب المذكورة أعلاه، وقدموا تصوراً اعتبر من قبل العلماء الحاضرين غريباً «ويحرف النقاش»، كون أن ارتفاع منسوب المياه في المحيطات (كمؤشر على ذوبان الجليد في القطبين المتجمدين) لا يعود سببه إلى ارتفاع حرارة الأرض، بل إلى سبب تساقط صخور من المنحدرات الصخرية القريبة من البحر في الماء( أشير إلى منطقة الجروف البيضاء في منطقة “دوفر” في “كاليفورنيا”)، مما أدى إلى ارتفاع في قعر المحيط فأدى ذلك إلى ارتفاع منسوب المياه! وكانت هناك محاججة أخرى تقول: أن ارتفاع حرارة الأرض يساعد على اتساع الطبقة الجليدية في منطقة الأنتركتيكا القطبية.
الاعتراض والخلاف
كان لعلماء من اللجنة_ كرئيس مركز البحث في “وودزهول”(ماساتشوستس) والمستشار السابق للبرنامج البحثي الأمريكي للتغيرات العالمية، “فيليب دافي_ اعتراض على مواقف الجمهوريين والديمقراطيين حول تغيير سياق النقاش ورفض أسس علم المناخ، واستبعاد دور “البشر” في تغير المناخ وحرارة الأرض.
شاطر رئيس اللجنة التي خاضت النقاش، النائب “لامار سميث”، الرأي المعارض لدور نمط الحياة المعتمد عالمياً في التغير المناخي، والذي رأى أنه يجب التسليم بعدم التأكيد في أسباب الاحتباس الحراري، وبالتالي يجب إبقاء كل الاحتمالات ممكنة ومنها دور الصخور المتساقطة في الماء، مما يفتح النقاش على ميوعة وعدمية ضرورية للرجعية للتعمية على القضية.
رفض “دافي”(المذكور أعلاه) هذا الموقف، واعتبر البيانات التي عرضت من قبل “لامار” اختزالية ومنتقصة، وتعتمد فقط على مركز قياس وحيد (في سان فرانسيسكو) ولا تأخذ بعين الاعتبار بيانات انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون المتزايدة عالمياً ربطاً بارتفاع حرارة الأرض، وأشار إلى تسارع ازدياد منسوب المياه أسرع بأربع مرات عمّا كان عليه منذ 100 عام، وأضاف “دافي” إلى أن اعتبار سبب تساقط الصخور نسبة لمقياس الزمن الإنساني هي ذات تأثير مصغّر.
خلاف عملي أم فلسفي
لكي تكتمل حلقة التعمية الأيديولوجية، كان لانخفاض السطح الجليدي في القطبين حصة أساسية من الخلاف، حيث شكك النائب “موو بروكس” بهذا الانخفاض، وشكك بأساس المعطيات التي قدمها “دافي” حول تسارع تقلص الطبقة الجليدية، المستقاة من مركز المعلومات الوطني حول الجليد والثلوج، وإدارة الطيران والفضاء الوطنية، وشكك أيضاً بأن وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” قدمت تقاريراً متضاربةً لأطراف مختلفة، ما يعني: أن الثقة والتشكيك لم يعودا في المجال النظري بل تعدياه إلى الثقة العملية في عمل المؤسسات والمعلومات والتقارير الصادرة عنها.
ودفعا بالقضية نحو إطار غامض أكثر، وشكك نائب آخر هو “بيل بوساي”، بأن حرارة الأرض وإن كانت في ازدياد، فهي حسب البعض كما اعتبر، تعود إلى حرارتها الأساسية، بالتالي فهي حالة طبيعية في دورة حياة الأرض.
كان رد “دافي” الذي تلقى أغلب الأسئلة من الممثلين السياسيين الديمقراطيين والجمهوريين، بأنه إذا أراد البعض اعتبار ارتفاع حرارة الأرض هو طبيعي، فهم أحرار في ذلك، ولكن هذا لا يعني حسب “دافي” أن الأرض ستكون كوكباً نريد أن نحيا عليه، فاعتبره النواب أنه يخوض جدلاً فلسفياً ليس هو موضع النقاش، فكان رده: أنّ الحفاظ على الحياة البشرية هو نقاش عملي بامتياز وليس فلسفياً.
يعكس هذا الخلاف المستمر حول المناخ وحول عدة قضايا علمية أخرى حجم الانقسام في الداخل الأمريكي حول قضايا تعتبر بالنسبة للنقاش العلمي مسائل شبه متفق عليها، بأن حِدة وجِدية القضايا لم يعد من الممكن تجاهلها من قبل السلطات السياسية، ولكنها تحاول أن تتهرب من المسؤولية السياسية الاقتصادية عنها، وتقترح مبررات أشبه بالخرافية والغيبية، كمثال الصخور المتساقطة في حالة ارتفاع منسوب مياه المحيطات هنا، أو أن ارتفاع حرارة الأرض هو الشيء الطبيعي. وينعكس هذا التناقض في ردة فعل علمية واضحة كونها تتعارض مع بدهيات تريد السلطة السياسية أن تختلق حولها مبررات، وهذا يظهر الحصار الذي تعيشه هذه القوى الرجعية على طول الخط ليس فقط من قبل باقي شعوب العالم ودوله، بل من قبل “حاضنتها” الداخلية كذلك.