الخوف من الروبوتات والماركسية
نتيجة التناقض الحاد الذي تعيشه الرأسمالية في العالم، ما بين نزوعها لتدمير القوى المنتجة من جهة، وبين التطور الموضوعي لهذه القوى كالتكنولوجيا الذكية من جهة، لم يعد هذا التناقض محصوراً في جانبه الاقتصادي فقط، لدى ممثلي الرأسمالية بل تعداه إلى جانبه الفكري السياسي بشكل بارز.
التناقض ما بين علاقات الإنتاج الرأسمالية المحتكرة لوسائل الإنتاج (ملكيتها الخاصة من قبل القلة) وبالتالي استغلالها للطبقة العاملة، كأرضية لنظام السيطرة على فائض القيمة من قبل الرأسماليين، وبين وسائل الإنتاج في تطورها التكنولوجي، والتي تسمح بأن تحل الآلة محل الإنسان في بعض الأعمال، وبالتالي تقليل نسبة العمل الضروري، لكي تتم إعادة إنتاج الحياة الاجتماعية(المواد والسلع الخدمات وغيرها الضرورية للحياة)، كما تنبأ ماركس، مما يرفع من إمكانية تفرغ البشرية لمهام أكثر شمولية وإنسانية لتطور المجتمع البشري ككل، هذا التناقض صار مع الآلة الذكية والروبوتات محل انفجار، فهو يصب في انهيار معادلة استغلال الإنسان من جهة (الطبقة العاملة) عندما يتم الاستغناء عن الطبقة العاملة وتعويضها بالروبوتات، ومن جهة أخرى يظهر أن العلاقات الرأسمالية تتعارض مع أي تطور جديد للآلة.
الرأسمالية ترفض هذا التطور كونه يشكل الأرضية لعلاقة الاستغلال، ويعظم من أزمتها التاريخية، بين فائض الإنتاج وتخفيض الإنتاج وسرعته (من خلال الآلة الذكية) وبين من سيشتري هذا الإنتاج، عندما ترمي بالعمال بشكل كبير خارج العمل، وخارج الحياة في العوز والقلة، وبالتالي قوى جديدة في دائرة المواجهة والصراع مع الرأسمالية.
من الاقتصاد إلى الفكري والسياسي
هذا ما حوّل التناقض من جانبه الاقتصادي البحت، إلى مستوى سياسي وفكري واضح، في الهجوم على الآلة الذكية والتطور التكنولوجي.
نجد هذا الوضوح مرة أخرى على لسان مارك كارني، حاكم مصرف إنجلترا، حيث حذر الشهر الماضي في مقال منشور في صحيفة الإندبندنت، من أن “الروبوتات ستسرق الأعمال وتؤدي إلى صعود الماركسية”، وبأن “ماركس وإنجلز سيعودان مهمين من جديد”، فالنسب الضخمة من المعطلين عن العمل وانخفاض الرواتب، التي ستنتج عن دخول الآلة الذكية إلى عملية الإنتاج في مختلف الميادين ستؤدي إلى “نمو الشيوعية خلال جيل واحد”، وقال كارني: إن القرن التاسع عشر يعيد نفسه من جديد حيث رمى بملايين العمال إلى البطالة عند ظهور الالة البخارية والصناعة الواسعة وقتها، مما سبب بظهور التيارات “المتطرفة السياسية”. وخصوصاً أن الآلة الذكية اليوم ستستعيض عن عمال لديهم مهارات مختلفة، كقطاع المحاماة والتمريض والطب والترفيه والخدمات والنقل والمحاسبة وغيرها، وليس فقط مهارات العمل اليدوي.
وهذا يعني أنّ قطاعات كبيرة من العمال ستكون خارج عملها، لأن مالكي المؤسسات والمعامل سيكونون أقرب إلى استخدام آلات ذكية وروبوتات لغياب الرواتب، أي: قلة الكلفة، وسرعة المهام أحياناً. ويعني: أن انتقال العمال والأُجراء من قطاع إلى آخر يتطلب اكتسابهم لمهارات أعلى جديدة لا تقدر الآلة اليوم على أداءها.
هذه الاشارة المباشرة إلى الماركسية والشيوعية من قبل حاكم مصرف إنجلترا، تعكس إلى أي حد يعيش النظام الرأسمالي تناقضه التاريخي، فالرأسمالية بلا طبقة عاملة، يعني: أنها لم تعد موجودة حسب ماركس، وينقلها إلى نظام تدمير ونهب مباشر للخيرات والقضاء على الأغلبية الاجتماعية وانهيار المؤسسات السياسية (والحقوقية والعلمية ...) التي تعمل كناظم اجتماعي في يد السلطة. أي: الانتقال إلى الهمجية.
ليس خوفاً على العمال وليس خوفاً من الروبوتات..
ينعكس هذا القلق العميق بلغة منافقة إعلامية وعلمية وسياسية عامة في خطين، الأول: في حرف الأنظار عن مشكلة النظام الاستغلالي، حيث إن الآلة الحديثة في نظام عادل ومُدَار جماعياً لن يكون هناك خوف منها، بل على العكس، ستكون الآلة دفعاً لتطور المجتمع وانتقال طاقات الإنسان إلى قطاعات إنتاج أرقى وأكثر شمولية. والخط الثاني: في القول: أن الروبوتات ستسرق وظائف العمال، أي: أنها تضع العمال في مواجهة الآلة، وليس في مواجهة النظام الرأسمالي، الذي سيرميهم لأنه يرى في الآلة تخفيضاً لكفلته، وهو في ذات الوقت يضع المعطلين عن العمل تحت رحمة السوق وفوضويته.
التصريح الذي أدلى به حاكم مصرف إنجلترا أعلاه، هو الوضوح بعينه، بغض النظر عن التشويهات المذكورة، فالوضوح يكمن بأن الخوف ليس لا على العمال، ولا من الروبوتات، بل من التغيير الاجتماعي الشامل الذي يواجهه المجتمع الرأسمالي على أرضية التطور التكنولوجي الحالي.