كُلّية الإنسان تتفكك بمعادلات كمية (2)
تطرقنا في المقال السابق على التركيز على المنهج البحثي الكمي في العلوم الاجتماعية الذي أصبح يسيطر عليها. وذكرنا بعض أسباب هذا التركيز
يعتبر ليونتيف في كتابه، الذي يناقش فيه: لماذا يجب العودة إلى الماركسية في العلوم الاجتماعية عامة، وفي علم النفس خاصة، إن العلم السائد فكك العلوم بأكثر من طريقة. أولاً: بالتفكيك الذي أصاب علم النفس مثلاً إلى عدة أقسام، مثل علم نفس النمو، علم نفس المعرفة، علم النفس الإيجابي، وإلى ما هنالك من أقسام. وثانياً: في عدم الانطلاق من كلية النفس البشرية، وكلية العوامل التي تؤثر بها. وثالثاً: عبر المنهج البحثي المتبع. وهو (ليونتييف) لا يرفض الأبحاث الكمية بالمطلق بل يجد أنها من الصعوبة أن تخلص بنتيجة متكاملة.
العيّنة ومعادلاتها
إحدى النقاط التي تحدد مصداقية البحث الكمي هي العيّنة، كيفية تجميعها، وماذا تمثل، بالإضافة إلى كيفية تأكيد أن هذه العيّنة تعكس رأي أو حقيقة التعداد السكاني الكامل في بلد معين، الذي يغيب أو يعزل بشكل كبير عن التحليل.اولاً: في غياب فرضية أن العيّنة لا تمثل الشريحة الكاملة من السكان، بل تمثل فئة معينة منها، إلا في حال أخذ الفروقات في الموقع الطبقي والوضع الاجتماعي الذي يؤثر على الأجوبة. وثانياً: في أن شكل العيّنة غالباً ما يتم انتقاؤه لكي يضمن صحة فرضية البحث. مثلاً: عندما يتم قياس وعي طلاب الجامعة بخصوص مادة معينة، لا يؤخذ في الحسبان هدف هؤلاء الطلاب، وجودهم في هذه الجامعة بالتحديد، من حيث الوضع المادي والاجتماعي والمستوى التعليمي، مدى نضجهم، والعلاقات الاجتماعية التي تؤثر على هذا الوعي.
الجهل مفتاح السيطرة
الفكرة المكررة في صعوبة فهم وتطبيق المعادلات الرياضية التي تستعمل في ال،حصاء، أو صعوبة الرياضيات بشكل عام، هي إحدى أسباب عدم القدرة في مناقشة آلية ونتائج الأبحاث الكمية. هذه الفكرة مرتبطة في طريقة تدريس الرياضيات بتجريدها عن الحياة اليومية وكيفية استخدامها فيها، وفي تجريد الإحصاء في بعض الأبحاث من معنى استخدامه.
وكيفية عرض نتائج هذه الأبحاث لها تأثير على كيفية فهمها. أولاً: من قبل الصروح العلمية التي تستخدمها، عبر استخدام تعابير مركبة ومعقدة لا تستدعي هذا التعقيد كونها بسيطة في مضمونها. وثانياً: من قبل الإعلام، عبر تضخيم نتائج بعض الأبحاث والعناوين التي تستعمل في عرضها. يتم عرض هذه الأبحاث من دون الأخذ بالاعتبار الزمن والعامل السياسي التي طرحت فيه.
السيطرة على العلوم
السيطرة على العلوم ونتائجها أدت إلى استخدام المنهج البحثي الكمي بكثرة. كما التنافس الحاد الذي طال العلماء بين بعضهم حتى في الصرح البحثي أو الجامعي نفسه، وبين العلماء في الصروح العلمية المختلفة. وأيضاً بين الطلاب، كونهم حكموا بضرورة استخلاص نتائج بحثية في فترة زمنية صغيرة، وبالاستناد إلى ما هو سائد في المنهج البحثي. والتسابق العلمي الذي كرسته الرأسمالية، كرس هذا النمط من الأبحاث، وكرس تبعية في الصروح الجامعية والبحثية متزامناً مع التبعية السياسية للقطب الواحد.
تحويل العلوم الاجتماعية إلى أرقام بحتة، يفيد منطق العلم السائد في تفكك نظرياته ومنطلقاته، وعزل العوامل الطبقية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر على الأفراد. لا نرفض بالمطلق الأبحاث الكمية من حيث المبدأ وضرورتها في حالات معينة، ولكن علينا التشديد على رفض تحويل مهمة العلوم من مساعد إلى مقولب للأفراد. وعلينا رفض انعكاس هذا المنهج في البحث على قدرة تطوّر وعينا وقولبة مراحل حياتنا جميعها في أنماط جاهزة من العلاقات والاستهلاك والعمل والتقدم. وهذه إحدى نتائج التركيز على المنهج البحثي الكمي. وعلينا أيضاً، تحليل الأرقام التي نراها في الأبحاث في طريقة استخلاص هذه الأرقام وكيفية عرضها.
فعزل العوامل المؤثرة الشاملة في أغلب هذه الأبحاث، والتركيز على تحليل المعطيات المعزولة والفروقات والتأثيرات فيما بينها، من خلال عوامل ثابتة لا تتعلق بالوضع الاجتماعي للعيّنة (الظاهرة المبحوثة)لا يمكن أن تعكس واقع الظاهرة، وضمنها الشريحة الأوسع. وهو ما أدى إلى إبعاد العلوم الاجتماعية عن قضية بحثها، وهي: الإنسان، وقولبتها كما قولبة قضيتها في البحث التفكيكي، في الفروقات بين العوامل الإثنية والعرقية والجنسية للبشر، في زمن التفكيك والتشتيت الرأسمالي للمجتمع.
تشويه منطق الحياة
تفكيك المنهج البحثي لا يشوه فقط البحث من حيث مضمونه ومصداقيته بل أيضاً يشوه منطق الحياة والعلاقات التي تحكمها. فإذا اعتبرنا أن العلاقات التي تربطنا بين بعض كبشر، وعلاقتنا مع محيطنا ككل، هي: علاقات كُلّية لا يمكن تجزأتها وتفصيلها بل يجب أن ندرسها بكليتها وتفاعلاتها. نعتبر أيضاً المنهج البحثي كلياً وغير مفكك بين كمي ونوعي، بل هو يتفاعل مع تفعلات الحياة ويبحث من حركتها وليس من خارج حركتها.