العقل السهل والمهمة الصعبة؟
تُلصق صفة الكسل عادةَ بالسلوك الذي لا يقوم بأي عمل «مُنتج»، وصفة المنتج في اقتصاد الرأسمالية، هي: أن يشارك الإنسان في دورة الاستغلال، أي، أن يعمل عملاً ما! وإذا اعتبر الكسل ردة فعل على طبيعة العمل نفسها، الروتينية والشاقة والمرهقة جسدياً ومعنوياً، يمكن القول: إن الكسل هو ظاهرة مرافقة ضرورية للعمل المأجور، أو الفاقد لأية قيمة إنسانية اجتماعية عامة. والكسل من جهة أخرى يرافق ظاهرة التعطّل عن العمل بالضرورة، فمن لا يجد طلباً عليه كعامل، سينتظر، وينتظر، ويتم «تكسيله».
وعلى المقلب الآخر من معادلة الاستغلال، هناك الطفيلي الريعي الذي يتربّح من استثماراته المالية أو العقارية... فهو أيضاً نفسه، يعبر عن ظاهرة «الكسل». «الكسل» بالقوة وليس بالاختيار، إذاً: هو ظاهرة ينتجها ويشجع عليها النظام الرأسمالي عامة، وفي مراحل تعفنه خاصة.
على النقيض تماماً، وعكس ما يدّعي المروجون والمحاربون للاقتصاد الاشتراكي بأنه أرضية للكسل، فالرأسمالية في بنيتها يكون الكسل ظاهرةً مرافقةً لها، وليست طارئة عليها، وعكس الكسل فيها هو: العمل لصالح منفعة رأس المال والربحية. هذا أحد ملامح التناقض في هذا النظام الذي لا يمكن له أن يشكل الحالة النهائية للمجتمع.
مُحارَب شكلاً، مشجَّع عليه ضمناً!
الكسل لا يضر النظام القائم، بل يريحه. فهو من جهة يخرج قسماً من المُستغنى عن خدماتهم خارج الفعالية الاجتماعية، وبالتالي يكبح من طاقة التمرد، التي قد تشكلها الحاجة للفعل والإنتاج الحقيقي الإنساني، في مواجهة عوائق الاقتصاد الرأسمالي في وجه الإنتاج الإنساني. ومن جهة أخرى: يكون الكسل داعماً لـ «العقل السهل».
العقل السهل، هو العقل الذي سمّاه مهدي عامل بـ «الفكر اليومي» في آخر كتبه التي لم تكتمل «في نقد الفكر اليومي»، والتي تلمس فيها بداية تسطيح الفكر العام، متكثفاً في تسطيح العقل السياسي، الذي ينحدّ باليومي من الحدث، لا في عمق الظاهرة، وقانونها.
“الفكر اليومي” هو ما شكَّل سِمة وملامح الفكر والثقافة التي عملت الرأسمالية وليبراليتها على إنتاجه وضخه، وقصفه طوال العقود التالية، بعد
«نقد الفكر اليومي»، ولا تزال.
الفكر السهل، هو ما يريده الفكر المسيطر، الذي يرهق نفسه في كثرة الأحداث، المصطنعة والحقيقية، ولكن يبقى بعيداً عن القوانين الفعلية خلف الحدث نفسه، قوانين المجتمع وتناقضاته الملتهبة. الرأسمالية لا تشجع الإنتاج والبحث في الواقع، فهذا يتعارض مع مهمتها: طمس الحقيقة، فالحقيقة هي عكس الرأسمالية، لأنها_ الحقيقة_ كما قال ماركس «دائما ثورية». لهذا، فالكسل المادي والمعنوي هما ظواهر تجهد الرأسمالية لتثبيتها.
العقل السهل والجديد؟
تكثيف العقل السهل يحضر بقوة في ظاهرة الموقف من الرأسمالية، وبناء البديل، في القول الرائج «ليس سهلاً أن تبني البديل، المهمة ليست ببسيطة»! هكذا إذاً يشكل «الكسل» كأساسٍ للعقل السهل، الذي تعوّد بقوة القصف الثقافي طوال سنوات، ومنع أدوات الفكر العلمي، وتبسيط الظواهر، وتسريع الصورة، وتنحيف النص، وتضخيم الضجيج، واستنفار الحواس، ذلك كله حرم الفكر والثقافة السائدة من أدوات هي بالضمون أسهل من «ثقافة استسهالية» ليست بسهلة. أدوات تمكن الإنسان من مواجهة الواقع وفهمه في قوانينه ومساره، ورؤية إمكانات تطوره واستباقه بعين نظرية، هي نفسها الحركة الاجتماعية الصراعية، التي حملتها الماركسية لكي تفكّ قيود العلاقة بين الفكر والواقع فصارت أسهل.
إذاً، هو عقل استسهالي وليس سهلاً، أرادته الرأسمالية أن يكون داعماً لعدم الإقدام على المهمة الصعبة، المهمة الضرورية، الوحيدة: بناء المجتمع البديل نقيض الرأسمالية، والتي تصير ممكنة بأدوات لا توجد عادة في ثقافة التسطيح السائدة، التي تعقد المسائل كلها حتى لا يجري حلّها.
بناء الجديد يتطلب القناعة أولاً بإمكانية بنائه، ليس لأنه سهل أو صعب، بل لأنه ممكن وضروري، وصعوبة بنائه لا تنبع من ذاته بقدر ما هي نابعة من التساهل في التفكير فيه.
العقل السهل والتحريف؟
هنا، ولمحاسن «الصدف التعيسة» يلتقي الفكر السائد الرأسمالي مع فكر التحريف اليساري، الذي أسهل ما لديه اليوم أن يطلق الصفات والتعميمات والمقولات، يمنة ويساراً على العالم كله، لا على ظاهرة ما فقط، فهو في وحدة مع الفكر السهل، غير العلمي، المتسطح في اليومي. التحريف الذي يقدم مادة تصب في طاحونة الرأسمالية نفسها، في تثبيته التبسيط، وفي إلغاء ما ورثه الفكر السياسي التاريخي العلمي من التجربة الإنسانية للبشرية ككل، وأن يلغي مضمون أية ظاهرة وقانونها من جهة، ويفكك شكلها من جهة أخرى. فيصبح كفكر تحريفي وريث عقل التفكيك والعدم، فتعزل الظاهرة عن تاريخيتها، وعن وحدتها الكلية، وعن أرضيتها المادية. ولكنه وبكل بساطة لا يريد، فهو من أنصار الفكر الاستسهالي.
الرأسمالية منتجة للقبائح كلها، عكس كل ما تدعيه، والتي تتهم الاقتصاد الاشتراكي عادة فيها، فكيف حقق الاقتصاد الاشتراكي ما لم تحققه الرأسمالية في عدة مئات من الأعوام؟! بالكسلّ؟! إنه الموت، صفة الرأسمالية، وكل ما هو حيّ معادٍ لها.