أثر الفراشة.. الضرورة والمصادفة والحرية (الحلقة الثالثة)
توقفنا في الحلقة السابقة عند القانون العلمي وعدم قدرته على إعطاء نتائج لا متناهية الدّقة، وقلنا أنّه يعطي نتائج عالية الدقة ولكنها ليست لا متناهية الدقة، وبدأنا بمحاولة تفسير هذه النقطة..
كرنا أن المراحل العامة لدراسة أية ظاهرة وصولاً إلى اكتشاف قانونيتها، هي ثلاث مراحل: تحديد الجوانب الأساسية لتلك الظاهرة، ومن ثم دراسة العلاقة بينها سكونياً ومن ثمّ بالتبعية للزمن، أي ضمن الحركة.
اللانهائية
لماذا نقول بتحديد «الجوانب الأساسية» للظاهرة المدروسة، وليس بتحديد كل جوانبها؟ في الحلقة الماضية ذكرنا قانون الغاز المثالي: (P.V = n.R.T) كمدخل لتعريف القانون بوصفه علاقة ثابتة متكررة بين مجموعة من المتحولات. إنّ هذا القانون يصف غازاً «مثالياً»، غازاً غير حقيقي تكون قوى التجاذب بين جزيئاته معدومة، ويكون حجم هذه الجزيئات بالنسبة لحجم الغاز مهملاً، ولا يمكن تسييله تحت أي ظرف، وغير ذلك من المواصفات والشروط.. رغم ذلك كلّه، رغم أنّ هذا القانون هو قانون «الغاز المثالي»، فإنّه قادر على توصيف حالة الغاز الحقيقي بدقة عالية، ولكن ليس بدقة لانهائية.. وهذه حال القوانين العملية جميعها..
السجال مجدداً
نتابع الآن السجال الذي بدأ في الحلقة الأولى بين «الجبري» و«الحتمي»، ونذّكر أنّ الجبري يقول بعدم وجود المصادفة وبأن كل شيء محكوم إلى القوانين، بالمقابل فإنّ «الحتمي» يعترف بالقانون ولكنّه يعترف بوجود المصادفة أيضاً..
الحتمي: إذا كنت ترى أنّ كل شيء في العالم محكوم للقوانين العلمية، فأنا أوافقك الرأي، ولكنّي أصر على أنّ وجود القوانين لا يمنع وجود المصادفة، فكل قانون من القوانين إنما يربط بين عدد محدود من جوانب الظاهرة المدروسة هي الجوانب الأكثر أساسية، ويهمل الجوانب الأخرى، ولك في ذلك مثال قانون الغاز المثالي.
الجبري: عدنا إلى المكان نفسه! إنّ ما تتحدث عنه أنت هو القانون العلمي بصياغته البشرية، لا بوجوده الواقعي الموضوعي، فالبشر ونتيجة لمستوى تطورهم يستطيعون الإحاطة بهذا القدر أو ذاك من جوانب الظاهرة، ولا يحيطون بها كلّها، وكلّما تطورت معرفتهم أكثر أحاطوا بجوانب أكثر، وتطورت صياغتهم للقانون العلمي، وبذلك تطورت قدرتهم على فهم الطبيعة كما هي، وهذه العملية غير منتهية ومتطورة أبداً..
الحتمي (يستمع ويخبئ ابتسامة شامتة): وقعت في الفخ!. الجبري (متفاجئاً ولكن مستهزأً): هات ما عندك..
الحتمي: لننطلق مما اتفقنا عليه، هنالك قوانين موضوعية تحكم الظواهر الطبيعية هي صيغة* (formula) تلك الظواهر، أي العلاقة بين جوانبها، بين مكونات مضمونها، وهنالك صياغة البشر لهذه القوانين، وهي صياغة ناقصة دائماً.
الجبري (مقطباً حاجبيه وتبدو عليه علامات التركيز والتحفز): طيب؟
الحتمي: حين تقول بأنّ عملية المعرفة لا نهائية، وكذلك عملية تدقيق البشر لصياغاتهم عن القوانين بأخذهم بالاعتبار بشكل مطرد جوانب إضافية للظاهرة المدروسة نفسها. ألست تقول ضمناً بأنّ عدد جوانب أية ظاهرة من الظواهر هو لا نهائي؟ الجبري: وماذا في ذلك؟ الحتمي (متابعاً بزهو): إن كان عدد جوانب الظاهرة لا نهائياً فتتمة ذلك التي أعتقد أنك توافقني عليها أنّ هذه الجوانب متغيرة ومتحركة دائماً، أي أنها متغيرة كمياً ونوعياً، منها ما يبقى ومنها ما يزول، وجميعها تتغير كمياً بشكل مستمر، أليس كذلك؟
«الجوانب الأساسية»..
المتحولات الأثقل
لنوقف السجال قليلاً لنوضح بعض الأمور.. إذا كان عدد جوانب أي ظاهرة لا نهائي، فإنّ من المستحيل صياغة قانون علمي يُطبق على هذه الظاهرة نهائياً، فأي قانون لتكون له نتيجة ينبغي أن يكون بعدد محدود من المتحولات، وإن ذهب التفكير نحو القوانين ذات الأشكال التكاملية، أو أشكال كثيرات الحدود والمتتاليات اللانهائية، مثلاً التوافقيات في الكهرباء، فإنّها تصف جانباً محدداً من الظاهرة يتمتع هو نفسه بعدد لا نهائي من التمظهرات يقوم القانون الرياضي بحساب تقريبي لها، حساب دقيق جداً، ولكنّه تقريبي في نهاية المطاف. ولكن هل ينفي وجود عدد لامتناه من الجوانب للظاهرة وخضوعها لقانون؟ على الإطلاق، القانون هو العلاقة بين هذه الجوانب، وهذه العلاقة موجودة وإن لم نستطع اكتشافها كاملة، ونحن لن نستطيع اكتشافها كاملة مهما طال الزمن.. ولذلك فإنّ ما نركز عليه هو «الجوانب الأساسية» للظاهرة، أي تلك المتحولات الأكثر ثقلاً في التأثير على الظاهرة، وأبسط التجليات الرياضية للتعبير عن ثقل متحول مقارنة بمتحول آخر ضمن قانون ما، هو الأس الذي يرفع له هذا المتحول.. ففي قانون التجاذب الكتلي العام لنيوتن: F= G (m1.m2)/r2 قوة التجاذب تساوي ثابت الجاذبية مضروباً بجداء الكتلتين ومقسوماً على مربع البعد، يظهر أمران أساسيان: الأول هو أنّ للبعد بين الكتلتين تأثيراً أكبر على النتيجة النهائية، فهو إذاً المتحول الأثقل في هذا القانون، الثاني هو أنّ الثابت G هو التعبير الرياضي عن مقدار «الجهل الفيزيائي»، بكلام آخر هو تعبير تقريبي عن إجمالي تأثير المتحولات الأخرى (جوانب الظاهرة الأخرى) التي لم تكتشف بدقة بعد، وثابت التجاذب هذا محسوب بدقة عالية جداً ولكنها أيضاً، ليست لا نهائية..
يتبع..
(*) استخدمنا كلمة الصيغة بديلاً عن كلمة الشكل، والمعتاد أن تترجم المقولة الفلسفية: (Form and Content) إلى (الشكل والمضمون) أو (الشكل والمحتوى)، ونعتقد أنّ هذه الترجمة تسيء إلى هذه المقولة، فالدارج في اللغة العربية اعتبار الشكل مسألة خارجية بالنسبة للظاهرة، في حين أنّ الشكل/ الصيغة ضمن المقولة الفلسفية يعبر عن العلاقة بين مكونات الظاهرة، أي أنّه مسألة جدّ داخلية. كما أنّ ترجمةForm إلى صيغة لها أساسها في اللغة الانكليزية إذا أنها تعني الشكل وتعني أيضاً الصيغة أي العلاقة، وإلى ذلك فإنّ هذه الترجمة تسمح بفصل دقيق ومنع للاختلاط والارتباك بين مقولتي (الشكل والمضمون) من جهة، و(الظاهرة والجوهر) من جهة أخرى.