قوة العادات في تغيير السّلوك
د. مرسلينا شعبان  حسن د. مرسلينا شعبان حسن

قوة العادات في تغيير السّلوك

العادات تحكم سلوك جماعات الحيوانات، مثلها مثل تحكم سلوك البشر، فإذا راقبنا تصرفات وحركات هذه الجماعات، أمكننا الخروج بأفكار يمكن استخدامها لتوجيه سلوك هذه الجماعات بشكل يصب في مصلحتها ومصلحة من يهتم برعايتها.

 

 وأية عادة لدى الحيوانات أو البشر لها آلية خاصة تعتمد على دورة مكونة من ثلاث خطوات، هي: العلامة الرمزية أو Cue ثم روتين متكرر ثم المكافأة أو التعزيز، حتى تدخل في نظام الحياة بصورة تلقائية، وتقترن بأثر مريح يعطي السّلوك القوة، بغض النظر عن أن هذا السّلوك سوي أو غير سوي وبغض النّظر إن كانت العادة جيدة أو غير جيدة، فهي تشكل ما يعادل نظام إرادي في السلوك يمارسه الفرد منا دون الاحتكام للعقل أو المنطق.

فقد أجريت تجربة معملية على مجموعة من القرود، بحيث كان موصول بأدمغتها إبر دقيقة لقياس النبضات الكهربية داخل دماغ كل قرد. التجربة قامت على جعل القرد يجلس على كرسي، ثم يضع يده على مفتاح للضغط عليه، وجعله يشاهد شاشة تعرض أشكالا هندسية ملونة مختلفة، ثم وصل أنبوب بلاستيكي بفم القرد لضخ قطرات من عصير حلو يحبه كل قرد.

العلامة الرّمزية

التجربة قامت على مكافأة القرد عندما يضغط المفتاح تفاعلا مع ظهور أي شكل على الشّاشة، في البداية كانت القرود تقاوم بشدة الجلوس ساكنة، لكن مع وصول العصير إلى فمها، بدأت شيئا فشيئا تهدأ وتجلس، ثم بدأت تسكن تماماً في انتظار الشكل الهندسي الذي على أساسه تحصل على المكافأة بمرور الوقت لاحظ العلماء زيادة مفاجئة في النشاط الكهربي لمخ القرد حين يحصل على قطرات العصير. بمرور الوقت أكثر، بدأت أدمغة القرود تظهر هذا النشاط الكهربي المفاجئ لمجرد رؤية الشكل الهندسي الذي كانت تكافأ بسببه، كما لو كانت القرود حصلت على المكافأة.

بعد انتظام هذه الحالة من ردود فعل القردة، بدأ العلماء تغيير هذه العادة، وذلك بأن تركوا القردة بدون مكافأة، أي يشاهد القرد الشكل فيضغط المفتاح ويتوقع العصير ثم لا يحصل على شيء. وجد العلماء أن القرود التي ترسخت لديها هذه العادة أظهرت علامات الغضب العارم لعدم حصولها على العصير. 

القردة التي لم تترسخ لديها هذه العادة بسبب عدم مرور وقت طويل على تكرار العادة، أظهرت بعض الغضب، ثم تحولت لأشياء أخرى تشغلها.

العلامة الرّمزية كانت: رؤية الشّكل، الرّوتين: كان الضّغط على المفتاح، المكافأة: كانت العصير. 

ما قبل نيل المكافأة

لعل كل منا سمع أو قرأ شيئاً قريباً من هذا المعنى، الجديد هنا هو أن انتقال النّشاط الكهربي الدّماغي، من وقت نيل المكافأة، إلى ما قبل نيل المكافأة، ثم إلى ما قبل ذلك أيضا، بما يشبه الإدمان، دعونا نقف عند هذه النقطة.

هناك عنصر صغير في المخ اسمه بصلة جانجليا أو العقد القاعدية من هذه التجمعات (النوى والعقد) تنبثق معظم الأعصاب التي ندعوها أعصاباً إرادية إذا كانت صادرة عن الدماغ أو أعصاباً تلقائية (لا إرادية) إذا كانت صادرة عن العقد العصبية المحيطية. 

النجاة من براثن الملل

هذا الجزء الصّغير (بصلة جانجليا) في المخ له وظيفة بسيطة تتلخص بأن: أي شيء يفعله المخ بتكرار، ينقله المخ إلى هذا الشّيء الصّغير، لينوب هذا الشّيء الصّغير في المستقبل عن المخ في أداء الوظائف المتكررة، وهذا مثلاً ما يسمح لنا بأن نقود السّيارة بحرفية تامة في عز الزّحام بينما قد نكون مشغولين بأمر آخر. هذه طبعا لفتة جميلة من المخ وتفسيرها، كما يقول

العلماء.  بأن المخ يريد أن يستمر في التّفكير في المثيرات الجديدة دوماً، لكن هناك جزئية سلبية صغيرة، لكي يبدأ عمل وتحكم بصلة جانجليا، لا يلزم الأمر سوى أن يلاحظ المخ العلامة الرّمزية (التي ذكرناها من قبل)، ثم ينتقل التحكم لا إرادياً ولا شعورياً إلى «بصلة جانجليا» أي بكلمات أبسط، إذا كانت لك عادة، فستجد نفسك تكررها دون أن تدري، فالمخ يأنف من التكرار والملل، ولذا يعهد إلى أجزاء أخرى داخله لتتولى هي تكرار الأوامر، في محاولة من المخ البشري للنجاة من براثن الملل.

لهذا حين تجلس مع أناس يأكلون، فستجد نفسك تأكل معهم دون أن تدري، وكذلك حين تشاهد التّلفاز فتشعر برغبة شديدة في شطيرة شهية أو مشروب بارد، المصيبة هي أن المرء منا قد لا يشعر أو يدرك حين تبدأ بصلة جانجليا في العمل، أو حين تنشأ العادة لدينا، فهذه الأمور تتطلب تركيزاً عالياً جداً من المخ ليدرك أنه أسير عادة ما، فالعادات لا تكشف عن نفسها بكل وضوح لنا.

صناعة الإعلانات

غني عن البيان أن غالبية صناعة الإعلانات تلعب على هذا الوتر الحساس، فحلم أية شركة هو بيع منتج يدمنه العملاء ويشترونه باستمرار، على أن تحقيق هذا الإدمان له شروط كثيرة.

 في فترة التّسعينات من القرن الماضي، اشتهر معجون أسنان أمريكي اسمه Pepsodent شهرة ساحقة كاسحة جلبت للشّركة المنتجة لهذا المعجون ملايين عديدة من الأرباح.

 قامت فكرة الإعلان على أمر بسيط: رسالة مفادها عزيزي الإنسان، هل تعلم أن هناك طبقة رقيقة تتكون على أسنانك، فتجعل لونها باهتاً، وتحرمك من الابتسامة السّاحرة؟ هيا حرك لسانك فوق أسنانك لتشعر بهذه الطبقة، اشتر هذا المعجون لتزيل هذه الطبقة وتعود لك ابتسامتك السّاحرة.

لا تكرار للعادة

استمر الحال كذلك حتى جاء أحدهم وفكر في مكونات هذا المعجون، والتي كانت تشتمل على مادة تسبب ما يشبه اللسعة البسيطة في الفم، وفق رأي العلماء المحللين لهذه الحالة، فالإحساس ببعض الحرقان البسيط جداً في الفم عمل بمثابة المكافأة التي دلت المخ على أن روتين غسل الأسنان انتهى، وأن الأسنان تبدو أفضل الآن ، حين بدأت بقية معاجين الأسنان تستخدم مواد تعطي الإحساس ذاته في الفم بعد غسيل الأسنان، بدأت مبيعات Pepsodent في التّراجع والانحدار قبلها، كان المرء يغسل أسنانه ولا يشعر بأي شيء، فكيف للمخ بأن يعرف  بصورة حسية ملموسة – بأنه نال المكافأة من هذه العادة؟ لا مكافأة = لا تكرار للعادة.

وجد العلماء أن الثّقة بالنّفس تحتاج لمن يتولاها بالرّعاية والتّذكير كل يوم، ولهذا المنطلق في علاج مدمني الخمر التّعهد بكل مدمن إلى شخص آخر يعمل بمثابة المعلم له أو الموجه، شخص أقدم منه في هذه التجربة يتصل به كل يوم، ويتعهد المدمن بأن يتصل به في أي ساعة في حال حدث له أي طارئ يجعله يفكر في العودة للخمر، وأن يحضر لقاءات أسبوعية ببقية أعضاء فريقه، وأن يستمع لهم ويقدم يد المساعد للجديد منهم.

لبناء عادات أكثر أصالة

 

هذه القاعدة العلاجية مبنية على أن: أي شخص قادر على تغيير أي عادة، شريطة تغيير الرّوتين الذي يصل به إلى المكافأة أو النتيجة من ممارسة العادة، ثم الإيمان بالقدرة الذّاتية على التّغيير، ثم لزوم جماعة تبث فيه الأمل والتفاؤل وتقوي فيه هذه الثّقة بالنّفس، وتثبت وترسخ هذا الإيمان الدّاخلي بالنّفس لبناء عادات أخرى أكثر سواءً وأصالة.

وبذلك عند عملنا على تغيير عادات سلوكية تطبّعنا بها، ووصلنا لمرحلة باتت هذه العادات تشكل عبئاً على استقرار حياتنا، لنتذكر أن للتّغيير خطواته كما لضبط النّفس آلياتها، ليكون الوعي بسلوكنا المُتعِب لنا ولغيرنا، هو بدء التّغيير من حيث ان الوعي مرده للإدراك المنبثق عن إعمال الاحساس، ومن ثم التفكير بما نعيش.