أمراض مستعصية

أمراض مستعصية

لم يستغرق الأمر أكثر من ليلة واحدة حتى ارتفع سعر أكثر أدوية أمراض نقص المناعة شهرة، وأشدها طلباً للمرضى حول العالم من ثلاثة عشر دولاراً ونصف  إلى 750 دولاراً، ليصبح هذا الخبر حديث الساعة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن وجد الملايين ممن يعتمدون على هذا الدواء أنفسهم يحدقون في فواتير مستشفياتهم غير مصدقين.

حاز بطل هذه القصة على اهتمام العديد من وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية، وأصبح «مارتن شيكريلي» أكثر الناس شراً على الإطلاق –كما «غرد» أحد المرضى على موقع تويتر منذ أيام- بعد أن أعلنت شركته الناشئة رفع سعر دواء «Daraprim» بنسبة خمسة آلاف بالمائة خلال يوم واحد، ذلك الدواء الذي يعرفه الجميع منذ أكثر من نصف قرن، والذي تعاقبت على تصنيعه العديد من شركات الصيدلة طوال ذلك الوقت، لكن «مارتن» قرر رفع السعر بهدف «تغطية تكاليف تطوير نسخة أكثر فعالية منه» كما أسرّ لوكالة CNBC التلفزيونية الأمريكية في معرض السؤال عن القصد من وراء هذا كله، أجاب الرجل عن أسئلة المذيعة بابتسامة متكلفة، وأخذ يستمع إليها وهي تقذفه بسيل من الاتهامات تستعرضها من الصحف والمواقع الأمريكية التي تناولت هذا الموضوع بكل حماس، ليجيب في النهاية على سؤالها الأخير المتعلق بنية الشركة للتراجع عن هذا التضخم الجائر في السعر بكلمة واحدة : «لا»!


«مجحف وغير كاف»

لم تصمد تلك الـ «لا» طويلاً على أية حال، فقد رضخ «مارتن» للضغوط وأعاد سعر الدواء إلى ما كان عليه خلال أيام، لكنه ما زال متشبثاً برأيه مصرحاً بأن تسعير الدواء بهذا الشكل : «مجحف وغير كاف»، ذلك الدواء الذي لا يكلف تصنيع الحبة منه أكثر من دولار واحد، لقد وضع نفسه في مركز العاصفة الانتخابية الأخيرة وأصبح دمية «يلكمها» الناخبون جميعهم كمثال عن الفظائع التي يجب التخلص منها في تلك البلاد، كما أعادت وسائل الإعلام جميعها إلى أذهان متابعيها مشاكله المالية السابقة وقضايا الاختلاس وغسيل الأموال التي واجهها خلال السنين الماضية، انهار عناد هذا الرجل الجشع تحت ضربات المحتاجين والمزاودين على حد سواء، لكن القضية ما زالت قائمة، رغم النصر الجزئي الذي يبدو أنه قد تحقق في هذه القضية، فهذه ليست المرة الأولى التي تفقد فيها الحكومة الأمريكية أية قدرة على التحكم بأسعار العديد من الأدوية الحساسة، التوقيت السيء والجشع الفاقع هو فقط من أضعف موقف «مارتن» ودفعه إلى العودة عن قراراته تلك.


بيع حقوق تصنيع الأدوية «الحساسة»

تستغل ذلك القطاع الكثير من شركات الدواء ثغرة واضحة في الأنظمة الأمريكية الخاصة، إلى حد تظهر فيه تلك الثغرة وكأنها وضعت عن قصد، حيث تعمد شركة ما إلى بيع حقوق تصنيع أحد الأدوية «الحساسة» والتي لا تستطيع رفع أسعارها دون مبرر واضح إلى شركة ناشئة أخرى، ولتبدأ تلك الأخيرة سياسة إعادة تسعير تتناسب مع قدراتها «المحدودة» في تصنيع الدواء ذاته بالسعر المناسب، لـ «تضطر» إلى رفع السعر تدريجياً لتغطية تكاليف التصنيع الجديدة، أو تطوير الدواء ذاته ليصبح «أكثر فعالية»، وينتهي الأمر بإعادة تغليف الدواء ذاته تحت اسم تجاري جديد مع فارق باهظ في الأسعار، كما حدث مع دواء «Cycloserine» الذي ارتفع سعره خلال أشهر قليلة من 500 دولار للعلبة إلى 10800 دولاراً، بعد أن تم الاستحواذ على حقوق تصنيعه من قبل شركة «Rodelis»، وكل من الدوائين «Isuprel» و«Nitropress» المتخصصين في علاج أمراض القلب ليرتفع سعر الأول منهما 212 بالمائة والآخر 525 بالمائة بعد أن تم شراء حقوق التصنيع من قبل شركة «Valeant»، ودواء «Doxycycline» المضاد الحيوي الشهير والذي بلغ سعر الزجاجة منه  في العام 2014 ما يقارب 1900 دولار بعد أن كان سعره في العام 2013 حوالي ال 20 دولاراً فقط!


إن لم يعجبك.. لا تشتر الدواء!

لا يعد تراجع «مارتن» عن جنونه المؤقت نصراً مكتملاً على الإطلاق، ولا يستحق ذلك التهليل الإعلامي الذي يصب في مصلحة أحد المرشحين الرئاسيين، مضافاً إلى رصيده الشعبي، يجب التفكير ملياً في طريقة ناجعة تضمن حقوق ملايين المرضى وتعفيهم من هذه «الدراما» المخجلة وتقي جيوبهم من شر المجانين الجشعين وتضع المجرمين الحقيقيين تحت دائرة الضوء، والذين وجدوا أنفسهم اليوم قادرين على التلاعب بالأسعار كما يرغبون وخلال ساعات، دون أن يكلفوا أنفسهم حتى عناء تغطية عملية النصب تلك، بأية حجة قانونية، ولسان حالهم يقول: «هذا هو السعر الجديد.. فإن لم يعجبك.. لا تشتر الدواء!»