(خيبر).. (فجر).. وما بعدها..!
اصطفت الطائرات الحربية تباعاً واحدة تلو الأخرى، ها هي قد عادت للتو من مهمتها وأطفأت المحركات، فتح الطيارون أبواب قمراتهم وترجلوا بتكاسل إلى أرض المطار، إنها الطلعة التاسعة هذه الليلة، والجميع يعلم بان هناك المزيد، لم يعد هناك الكثير لتدميره بعد أن سوت تلك الطائرات الاسرائيلية الشوارع والمنازل بالأرض، وتحولت «غزة» المحاصرة إلى كتلة من النار
لكن الاوامر لم تتوقف، «استعدوا للبدء بطلعة جديدة!»، فصواريخ المقاومة ما زالت تجد طريقها من قلب ذلك الآتون الملتهب، تقف مجموعة الطيارين تلك أمام طائراتهم بعد أن تم تزويدها بالوقود وتحمليها بالصواريخ على عجل، «إلى متى سنظل في الجو؟!» يسأل أحدهم وهو يلتفت إلى رفاقه، يهم آخر بالرد لكن أصوات صافرات الإنذار من المستوطنة القريبة من قاعدتهم أسكت كلماته، وأنصت الجميع إلى الصوت المتقطع المدوي قبل أن يتحرك الجميع إلى الداخل.
حملت العقود الماضية الكثير من التقدم للصناعة العسكرية الاسرائيلية، ولم تتوقف مختبرات الأبحاث العسكرية للحظة عن تطوير واختبار ما يمكن تصنيعه من أسلحة تقليدية وغير تقليدية، حتى أصبح ذلك الكيان قوة عسكرية لا يستهان بها، وبدأ بإشاعة الكثير من الأخبار عن آخر ما توصل إليه في هذا المجال بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الداعمين والممولين لمثل تلك الصناعات، فكبر «الوحش» وأصبح اكثر شراسة وعناداً، واخذ يضرب بعنجهية وغرور كل من يحاول التشكيك في تلك القدرة، لكن ذلك الغرور الفارغ لم يستند يوماً على الثقة الشعبية بقدرة مايسمى بـ«جيش الدفاع الاسرائيلي» على صد أي هجوم من المحيط المعادي، وتركزت الجهود السياسية في السنين الاخيرة على تحييد ذلك المحيط المعادي عن الصراع وإعفاء (إسرائيل) من أي مواجهة محتملة تضع تلك القوة العسكرية والتقنية تحت الاختبار، واليوم، وفي غزة، وبين بين الأنقاض، نلاحظ الجديد والمثير للاهتمام في هذا المجال، إنه نصر تحققه المقاومة الفلسطينية للمرة الاولى، نصر «صاروخي» يستحق التحليل.
أعلم أن البعض يعتبر أن كلمة «نصر» قد تحمل تفاؤلا ساذجاً أو قصوراً في التحليل، فالعشرات من الفلسطينيين يقتلون يومياً بالصواريخ والقذائف الحديثة، وميزان الخسائر البشرية والمادية غير متكافئ على الإطلاق، لكن الصواريخ الفلسطينية لا تحمل رأساُ متفجرا يقتل البعض ويدمر القليل فحسب، بل تحمل معها انذاراً خطيراً يعكس تطورها المتسارع وقدرتها على اختراقها أعتى الدفاعات بالإضافة إلى وصولها إلى اماكن كانت منذ زمن قليل بعيدة جداً عن مراميها، إنها تعكس حالة تقنية معقدة تعمل يإخلاص على تطوير الصواريخ القديمة وتحويلها إلى أسلحة حديثة تقف نداً لأقوى الدفاعات الجوية في العالم، إنها انعكاس لحلف عسكري سري متكامل يمتد عبر أطراف العالم.
«فجر - 5» ، هذا ما نتحدث عنه بالضبط، الصاروخ الايراني المنشأ الذي وصل مداه اليوم إلى 75 كليومتراً فتجاوز قدرات صواريخ القسام التقليدية التي استخدمها المقاومة الفلسطينية طوال العقد الماضي، الصواريخ التي أثارت ضجة كبيرة عندما صرح قائد الحرس الثوري الايراني الجنرال محمد علي جعفري منذ أيام مؤكداً قيام إيران بتزويد المقاومة الفلسطينية بتقنية صواريخ «فجر - 5» ، والتي دفعت القادة الاسرائيليين إلى تصعيد العملية العسكرية بهدف تدمير مستودعات تلك الصواريخ وهدم أنفاق النقل التي تسهل نشرها على كافة الاراضي الفلسطينية لتصل إلى كل مكان من اسرائيل، فكانت حقيقة وصولها «إلى كل مكان من اسرائيل» دون استثناء الهاجس الأخطر والسابقة الأولى عبر سنوات الصراع.
واليوم، تحقق تلك الصواريخ الرعب المطلوب في الجانب الاسرائيلي، وبالأخص بعد أن أفادت المعلومات الاستخباراتية بأن المقاومة الفلسطينية قادرة على تصنيع تلك الصواريخ على أراضيها، من دون أن تضطر إلى جلبها عبر البحر أو البر بالطرق السرية المعتادة، أي أن الحصار الاسرائيلي لن يفيد في هذه الحالة، ثم بدأت تلك المعلومات الاستخباراتية بالتحول إلى وقائع لا لبس فيها، وقعت طوال الفترة ما بين العام 2008 أثناء عملية «الرصاص المصبوب» وحتى الآن، حيث أطلقت المقاومة في البداية 1600 صاروخ على الأراضي الاسرائيلية وفق امدية تزداد اتساعاً مع مرور الشهور، حتى وصلت إلى بلدة «هاديرا» الاسرائيلية على الساحل والتي تبعد أكثر من مائة كيلومتر عن قطاع غزة المحاصر وحوالي خمسين كليومتر عن تل أبيب، مما دفع الكولونيل :«بيتر لارنر» من الجيش الاسرائيلي إلى القول : «إنها صواريخ خيبر – 1 والتي يصل مداها إلى أكثر مما رأينا بكثير، وأنا واثق من امتلاك الفلسطينيين للعشرات منها، وهذا أمر لا يمكن تجاهله أبدا».
ولصواريخ « خيبر- 1 » قصة أخرى، بدأت عندما حاصرت وحدات من القوات الخاصة الاسرائيلية سفينة تجارية قادمة من ايران إلى السودان، فتش الجنود السفينة ووجدوا تحت أكياس الأسمنت الإيراني صناديق عديدة من صواريخ «خيبر - 1» أو ما يعرف عسكريا باسم «M - 302» عندها لم تحتمل اسرائيل الأمر، واتخذ القرار بقصف مستودع الصواريخ الأكبر للمقاومة الفلسطينية في المنطقة، فألقت الطائرات الحربية الاسرائيلية قذائفها على مستودع الخرطوم للصواريخ الفلسطينية في السودان ودمرته بشكل كامل في عملية شهيرة تناقلتها وسائل الإعلام آنذاك، لكن استقدام تلك الصواريخ لم يتوقف وبدأ تصنيعها داخل فلسطين بكميات كبيرة وها هي اليوم تنهمر على كل الأراضي الاسرائيلية وفي أماكن غير مسبوقة و لم تعد القدس أو تل أبيب او حتى ديمونا عصية على مرامي تلك الصواريخ.
خلال السنين الماضية، رأينا أمثلة براقة لمثل هذا النوع من الخرق التقني، وبالأخص بين صفوف المقاومة اللبنانية أيام حرب تموز، وظهرت إلى الملأ أنواع جديدة من «الانتفاضات الالكترونية» و «المقاومة الرقمية» التي لا تكتفي بالدعم التقني وجذب الأضواء الإعلامية عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، بل تجاوزت كل ذلك لتترك أثراً مباشراً على انظمة التجسس والدفاع والتوجيه الاسرائيلية التي أمضى الباحثون أعواماً في تطويرها وادعوا بانها لا تقهر، واليوم، تقدم المقاومة الفلسطينية مثالا حيا عن هذا النوع من التكنولوجيا، النوع الذي لا يتطلب تعقيداً كبيرا ولا يحتاج لمختبرات أو مناطق اختبا، النوع الذي يثبت بأنك لا تحتاج إلى الكثير لكي تسمع العالم صوتك بالقوة، إنها اتحاد نادر بين العقيدة الفكرية المؤمنة بالنصر وقهر العدو والعبقرية التقنية التي سمحت لبعض العقول الشابة بالتعاضد والتعاون للرد على طائرات الجبناء وصواريخ الحاقدين، ورد الصاع صاعين، أبعد فأبعد..