الزراعة العضوية.. عالم جديد أخضر ..

الزراعة العضوية.. عالم جديد أخضر ..

صناديق شهية على الرفوف، أصناف وأنواع لذيذة من الخضار والفواكه تزدان لتملأ المحلات بعبق طازج، لكن بعض المنتجات قد سلبت الأنظار وجلبت الكثير من الانتباه، ملصقات «الغذاء العضوي» الجميلة أصبحت في كل مكان، واجتاحت العالم موجة «العودة إلى الجذور» وإلى المأكولات المحلية التي تنتج بالاعتماد على تقنيات تحافظ على صحة البيئة والإنسان كـ «الزراعة العضوية»

والتي تبدو خياراً جذاباً وصحياً على الرغم من سعرها الباهظ، من ناحية أخرى، يشهد العالم تحولاَ سريعاً نحو الزراعة الرأسمالية التي يواكبها تمدّد أخطبوطي لشركات الغذاء الصناعية العابرة للقارات، ونحن أمام عتبة اتخاذ قرارات جديدة في مجال غذائنا اليومي، لذا تبدو «الزراعة العضوية» الحل المحلي المتكامل للكثير من مشكلاتنا، ومن المؤكد انها ليست مجرد «موضة» سنراها قريباً لتختفي لاحقاً، يبدو أنها الخيار الأمثل، والوحيد إن أردنا الحفاظ على مستقبلنا.

لا تتوقف حدود هذا المفهوم على خلق سبل جدية ومحسنة في تطوير الإنتاج الزراعي البشري، فهو  يكتسب فعاليته من كونه النظام «الأخلاقي» الأفضل في مجال التنمية الزراعية، تتعاون جهود القيمين عليه على تنظيم  إدارة النظام البيئي بدلا من التعامل مع المدخلات الزراعية الخارجية، لذا فهي نظام «محلي» التوجه يتناغم تماما مع الظروف الطبيعية المحيطة ويعمل على ضمان عدم ضياعها أو تلويثها، إنها نظام دراسة التأثيرات البيئية والاجتماعية المحتملة من خلال وقف استخدام المدخلات «الغريبة» مثل الأسمدة والمبيدات الاصطناعية، والعقاقير البيطرية، والبذور والسلالات المحورة وراثيا، والمواد الحافظة والمشعة. لتحل مكانها أساليب إدارة تتفق وخصائص كل موقع فتحافظ على خصوبة طويلة الأجل وتمنع الآفات والأمراض، لنحصل في النهاية على نظام بيئي، اجتماعي، اقتصادي نظام شامل يبدأ من مرحلة التعامل مع الأرض إلى العلاقة مع النبات والتصنيع والإنسان.

البدايات

بدأت طرق الإنتاج العضوي تتطور في بلاد مختلفة من العالم منذ بدايات القرن العشرين، وأعطى الرواد الأوائل لطرق الزراعة العضوية أسماء مختلفة لما يقومون به من ممارسات زراعية أقرب إلى الطرق الطبيعية في الإنتاج، وإن اختلفت في بعض التطبيقات والممارسات والمعتقدات والقوانين ولكنها تتميز جميعا بأنها تهدف إلى إنتاج غذاء خال من السموم وكاف لإطعام البشرية وبطرق أكثر استدامة وعدالة تحفظ حق الأجيال في المصادر دون إلحاق الأذى بالإنسان والبيئة. عندها بدأ انتشار الزراعة العضوية يتزايد بشكل متسارع على الصعيد العالمي، حيث وصلت  الزيادة السنوية في التحول من الزراعة المعتمدة على الكيماويات نحو الزراعة العضوية بحوالي 20% منذ العام 1990، ووصلت نسبة المساحات المزروعة بحقول عضوية في ألمانيا والسويد الى 20٪ من المساحات الزراعية بحلول العام 2010، وأصبح 30٪ من الخبز المستهلك في مدينة ميونخ مثلاً عضوياً في العام 2005، العام الذي أقرت فيه إيطاليا بجعل الغذاء في المدارس عضوياً خالصاً.

القدرة الشرائية

لم يكن الطريق سهلاً أمام انتشار هذا المفهوم على الإطلاق، حيث عدة عثرات بدءاً من كلفة الإنتاج وصولاً إلى عمليات التسويق، مما ضيّق حلقة المستهلكين الذين يملكون القدرة الشرائية على استهلاكها. وبما أن الهدف الأساسي للزراعة العضوية هو أن تكون لكل الناس، كان التحدي الأكبر في نقل المنتجات الزراعية العضوية من النخبة إلى عامة الشعب، حيث بدا الأمر مستحيلاً في البداية، في ظلّ طلب كثيف وكميات عرض قليلة. لكن مضاعفة الإنتاج العضوي ودعم الدولة لمزارعيه ساعد بوضع الأمور على السكة الصحيحة وإن بخطوات خجولة، كما أن الاستثمار الجدي في مثل هذا النوع من الزراعة يتطلب معرفة عملية لا يمتلكها معظم المزارعين في منطقتنا، حيث تشكل الآفات الزراعية على سبيل المثال أحد أهم المشاكل التي تستنزف وقت وجهد ومال المزارع، وتعتبر المبيدات الكيماوية في الزراعة المعتمدة على الكيماويات أهم الوسائل، وأحيانا الوسيلة الوحيدة، التي يلجأ إليها المزارعون في سبيل تقليل أضرار الآفات، دون الوصول إلى حل جذري لهذه المشكلة بالقضاء على الآفات، لتظهر بين الحين والآخر آفات جديدة أشد فتكا بالمحاصيل وأخرى أمقاومة للمبيدات. بينما يجدر بالمزارعين التوقف عن استخدام الكيماويات مما يتيح الفرصة أمام الحشرات النافعة للتطور، وبناء تربة خصبة والحفاظ على الأحياء في داخلها، والعمل  بنظام الدورة الزراعية. مما يجعل انتشار وضرر الآفات والمصاريف اللازمة لمكافحتها أقل، فممارسة الزراعة العضوية تتطلب من المزارع إلماما ومعرفة جيدة بمحاصيل متنوعة، وبعلوم التربة والري والحشرات المختلفة (الضارة والنافعة) والعلاقات بين هذه الحشرات، وكذلك علاقات التضاد أو التعزيز (حيث تضعف النباتات بعضها أو تقوي بعضها إذا زرعت بشكل متداخل أو مترافقة مع بعضها). وهي بذلك تحتاج إلى قدرة على الربط بين هذه العناصر وتأثرها ببعض وتأثيرها على بعضها البعض، لذا يبدو من الضروري اليوم تأمين استشارات للمزارعين «العضويين» عن طريق وزارات الزراعة واجهزة الدولة المعنية مما يساعدهم في رفع قيمة إنتاجهم وتخفيف كلفته دون أن يضر بأرضه، وبالأخص في بلادنا التي يشهد الريف فيها اليوم تحوّلات سلبية على الصعيدين البيئي والاجتماعي عززتها الظروف الراهنة، بعد أن فرغ من أهله الذين يتناولون الغذاء المستورد والمعلّب. أما المزارع الصغيرة، فتقفل أبوابها واحدة تلو الأخرى أمام مضاربة المزارع الرأسمالية الكبيرة، وتقع أراضيها فريسة للمستثمرين الذين يحوّلونها إلى مشاريع تجارية مفرغة من الحياة، لذا لابد من تنظيم ندوات تعريفية محلية تخط البدايات وتعرف بالتقنيات، كالجهد المتواضع الذي قدمه مكتب الإنتاج العضوي السوري في مديرية زراعة طرطوس مثالاً، عن طريق تنظيم ندوة حول آفاق التحول للإنتاج العضوي المتمثلة في تطبيق قانون الإنتاج العضوي السوري كون سورية الدولة العربية الثانية في وجود هذا القانون.

معركة مع الشركات

يبدو واقع الزراعة العضوية في العالم أجمع أكثر تفاؤلاً اليوم، وهو ما زال يخوض معركة شرسة مع شركات المواد الكيماوية الزراعية بأنواعها، والتي ستصاب أرباحها السنوية بأضرار جسيمة بعد أن أثبتت الدراسات العلمية ارتباط الكثير من الأمراض المستعصية باستخدام مثل تلك الكيماويات السامة في الغذاء، ومدى تأثيرها في التربة والمياه والهواء، تلك الموارد التي تتناقص مساحاتها يوميا أمام المد الصناعي الجشع وإهدار هبات الطبيعة الثمينة والتي لا يمكن تعويضها في معظم الأحيان، ربما سيأتي اليوم الذي يدرك فيه الجميع أهمية المفهوم المتكامل للزراعة العضوية، عندها سيصبح التنوع الحيوي والترابط الحيوي أدوات طيعة تداوي جروح الأراضي الملوثة، حيث لا يضيع أي شيء، بل تتحول المخلفات إلى أسمدة، ويتناغم سلم التطور والبقاء دون أي تلاعب أو تعديل، لكن لا بد من الإسراع في ذلك، قبل أن يفوت الأوان.