«أبو مريم» .. تحت الاختبار
فتح عينيه فجأة وقلبه يخفق بقوة، صوت طنين مزعج متقطع ما زال يثقل رأسه المتعب، أدار رأسه ببطء وأراد تحريك جسده المنهك لكن دون جدوى، ثُبتت أطرافه على كرسي كبير وبقي صدره مكشوفاً أمام حزمة من الضوء، بدأت الصورة بالاكتمال في رأسه عندما رأى البعض يتحرك من حوله وكل في ردائه الأبيض، «أنا في مشفى إذن..» همس لنفسه وهو يحاول تذكر الأحداث التي قادته إلى هنا
عادت إلى البال ذكريات ولادة ابنته «مريم» في مشفى حيفا، لكنه سرعان ما أزاحها بعيداً وهو يحاول معرفة سبب وجوده في هذا المكان، لقد بقي له على وجوده في «إسرائيل» أكثر من اسبوع، اختطفته دورية على حدود قريته بعد عودته مع أغنامه على طريق منزله، لم يتحدث أحد معه منذ ذلك الحين، وما زال الجميع هنا يتجاهل النظر في وجهه حتى وهو مقيد بهذه الطريقة، اقترب منه أحد الأطباء بسرعة، مسح صدره بسائل غريب، أحس ببرودة مفاجئة ودوار أفقده الوعي على الفور، إنه لا يعلم بأنه الآن جزء من التجربة، التجربة التي قد لا تعيده إلى وعيه كما فعلت في المرات الخمس الأولى.
هي تجربة من ملايين التجارب التي أجرتها المختبرات السوداء على البشر، وعلى الرغم من انحطاط هذا الفعل البشري المنافي لجميع الأعراف الإنسانية، إلا أنه ليس بالخبر الجديد على الإطلاق، ووقد دفع ملايين الناس حيواتهم «خدمة للعلم» كما يحلو للبعض أن يقول، قد تتكشف تفاصيل بعض من هذه القصص، لكن غالبيتها بقيت حبيسة الأقبية التي احتوتها دون أن ترى النور، كما عرفت الكثير من الدول بتاريخها الأسود فيما يتعلق باستخدام البشر كفئران تجارب.
«لإسرائيل» تاريخ عظيم في هذا المجال، فاقت سمعتها سمعة النازية التي تجاهر دوماً باحتقارها، لكنها في الواقع تستمد من تجاربها العلمية على الإنسان الطرق والمراجع، وها هي وسائل الإعلام الاسرائيلية تعلن اليوم نهاية إحدى أكبر الفضائح التي ربطت الجيش الاسرائيلي بهذه الجرائم البشعة، والمثير للاهتمام هنا كان استخدام جنود اسرائيليين كفئران تجارب هذه المرة، لم يتم إجراء الاختبار على الفلسطينيين كما جرت العادة، ولهذا السبب كانت هذه الحادثة باختصار: زوبعة إعلامية.
بدأت القصة من الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعيش في العام 1999 هاجساً أمنياً خطيراً، كانت المغلفات البريدية الحاملة للبودرة البيضاء رعباً لجميع الأمريكيين، نعم إنها «الجمرة الخبيثة» التي حصدت الأرواح وألقت الذعر في القلوب لسنين لاحقة، هنا أعلنت الإدارة الأمريكية أنها غير قادرة على تجربة لقاحات مضادة على البشر، في الحقيقة لم تكن الإدارة الأمريكية قادرة على الحصول على موافقة لفعل ذلك في الأساس دون ان تثير فضيحة كبرى، فتبرعت الصديقة الحميمة «إسرائيل» لإجراء مثل هذه التجارب على أراضيها، وتم الاتفاق على تكليف معهد «نيس زيونة» لفعل ذلك بالتعاون مع الجيش الاسرائيلي ومقابل الملايين من الأموال، فوقع الاختيار على مجموعة من الجنود الاسرائيليين ، وتم حقنهم بلقاحات اختبارية لرؤية نتائجها وآثارها الجانبية، لم يخبر أحد أولئك الجنود بأنها لقاحات تحت الاختبار، لقد كانت بنظرهم لقاحات سليمة فعالة لا تحمل أي ضرر، لكن الأعراض الجانبية المرافقة لهذه التجارب كانت كفيلة بفضح القصة على الملأ، وكان الصداع المزمن والالتهابات الغريبة والفشل الكلوي المؤقت كافياً لتبني قضيتهم من قبل العديد من المنظمات الحقوقية الإسرائيلية، وبقيت تفاصيل هذه التجارب التي استمرت من العام 1999 إلى العام 2005 موضوع محاكمات مطولة انتهت بدفع تعويضات مالية للجنود دون ان تتم محاسبة القائمين على هذه التجربة من أطباء وعلماء في المعهد سيئ السمعة ذاك، حيث أعلن الطبيب المشرف استقالته قبل صدور الحكم بزمن، ولم يصدر أي بيان حكومي يعترف بتورط الإدارة الاسرائيلية في مثل هذه الأعمال، انتهت القصة هكذا مع تجاهل كبير لتاريخ هذا المعهد بالذات، والذي أنشأه الصهيوني العتيد «إفرام كاتزير» كمنشأة لتطوير الأسلحة الكيميائية والبيولوجية بقصد اغتيال قيادات المقاومة الفلسطينية عبر السنين، تحدثت صحيفة «الجروساليم بوست» عن هذا الموضوع، ولم تهمل تورط المؤسسة العسكرية الاسرائيلية ومعهد «نيس زيونة» بهذه الفضيحة، لكن المقاطع كافة التي أشارت إلى ذلك سحبت من موقع الجريدة على الانترنت بعد ساعات فقط من نشرها!
على كل حال، لقد تحالفت طرق تجارة الرقيق وبيع الأعضاء ومختبرات التجارب تلك لتشكيل شبكات عالمية لا تمانع إجراء ما ترغب من التجارب على البشر وبالسعر المناسب، تم خطف عشرات الآلاف من الأطفال من أفريقيا في أزمان المجاعات والحروب القبلية دون أن يعلم أحد عنهم شيئا، مئات القنايل الذرية ألقيت في المحيطات بقصد تجربة فعاليتها ما زالت آثارها المشعة تقتل العشرات من الناس يومياً، يطرح الكثير من العلماء الشرفاء بدائل أكثر إنسانية، لكنها لن تحقق رغبات الجشعين، المال متوفر وكل التسهيلات ممكنة، هو سباق لا رحمة فيه ولا ضوابط، يدفعه الغرور والرغبة في السيطرة دون أي مراعاة لقدسية الذات الإنسانية تحت مسميات كاذبة تسخر منجزات العلم، تجري أحداثه كل يوم، سواء أعلمنا بتفاصيلها أم لم نعلم، وهناك الكثيرون من أمثال «ابو مريم» ينتظرون دورهم على كرسي الاختبار.