الطبيعة.. الأم والمعلم
لا يمكن لأي منا تخيل مدينة باريس دون برج إيفل الشهير، لقد تحول هذا الصرح الهندسي إلى أشهر معالمها، وما زال يحظى يومياً بالعديد من الزوار المهتمين بتفحص روعة التصميم وجودة بالبناء وبراعة الاهتمام بالتفاصيل التي مكنته من مقاومة العوامل الطبيعية والصناعية بشكل مذهل ولعشرات السنين، يعود السبب في ذلك إلى حقيقة يجهلها الكثيرون، فتصميم هذا البرج قد استوحي من عظم الفخذ القوي البشري الذي يحمل القسم الأكبر من وزن كل منا، ولا يمكن للباحث تجاهل هذا التشابه الكبير بين بنية البرج الهندسية وبينة العظم هذا، وعندها قد يدفع الفضول البعض منا للتقصي عن أمثلة أخرى يستوحي فيها الإنسان من الطبيعة أفكاراً لابتكاراته، يدعى كل هذا بعلم «بيوميميتيك biomimetic»، وتطبيقاته حولنا
لاحظ عالم التشريح «هيرمان فولماير» مقدرة عظم الفخذ في وضع الوقوف على حمل طن كامل، كما أن بنيته من عيدان متداخلة صغيرة على شكل قفص أثارت اهتمامه، فهي تخفف من تأثير الضغط عن طريق اصطفافها على خطوط القوة التي يتعرض لها العظم عن تعرضه للضغط، وفي العام 1866 لاحظ المهندس السويسري كارل كولمان أن تشكيل هذا العظم يستند إلى تصميم محكم جدا، وكانت هذه الحقيقة العملية مصدر إلهام لـ «غوستاف إيفل» ومعاونيه سنة 1887 في بناء برج إيفل، ليطابق إلى حد ما عظم الفخذ في تشابكه القفصي.
تعوّد الإنسان على استلهام اختراعاته من الطبيعة. في الملبس والمأكل وتصميم أدوات الصيد والالتقاط، مروراً بتقليد الطيور وأحلام الطيران، والعديد من الاختراعات التي اتخذت من النماذج التي طورتها الطبيعة ركيزة للانطلاق والتطوير، إلا أن الباحثين عادوا مؤخراً إلى الاهتمام بالطبيعة بشكل أعمق، ووجدوا فيها قدرات تفيدهم كثيراً في ابتكار تقنيات حديثة تتماهى مع طفرة تكنولوجية وصناعية تستطيع تجاوز ما كان مستحيلاً من قبل. فأصبح «biomimetic» أو علم «محاكاة الطبيعة» في بؤرة اهتمام العلماء، يسعون من خلال هذه التقنية إلى فهم التركيبات الطبيعية لاستخدامها في تطبيقات مفيدة.
لكن فهم ما طورته وحسنته الطبيعة عبر اصطفائها خلال ملايين السنين ليس بالأمر السهل كما يؤكد البروفسور توماس شبيك، من شبكة المختصين في تقنية محاكاة الطبيعة. ويضيف: إن «البيوميميتك ليس نقلاً كربونياً عن الطبيعة، ولكنه ابتكار جديد مستوحى من أمثلة طبيعية، فهو يمر بعدة مراحل قبل أن يصل إلى المنتج النهائي.» أي أن الهدف يكمن في تصنيع أجهزة وأشياء فكرتها مقتبسة من الطبيعة، أو محاولة لتصنيع هذه الأشياء نفسها وليس مجرد تقليد.
قد يشعر العديد منا بالدهشة عندما يبدأ بالرجوع في أصل العديد من الابتكارات إلى نموذجها «الطبيعي»، فمن المثير للاهتمام معرفة أن أصل اختراع الشريط اللاصق الخاص بالأحذية والحقائب يعود إلى مشاهدة العالم السويسري «جورج دي ميسترال» لبذور النباتات الشائكة وهي تلتصق بفرو الكلاب أو بألياف بعض الملابس بمجرد سقوطها من الشجر على السائرين أسفلها، ليستغرق بعدها أكثر من ثماني سنوات في محاولة محاكاتها، وكانت النتيجة اختراعاً عمليا نستخدمه كل يوم هو شريط اللصق.
تقوم الطبيعة بتطوير ابتكاراتها بطريقة لعبة «الليغو». عدد قليل من المواد الأولية ينتج عدداً هائلاً من المركبات. فبياض البيض مكون من 20 حمض أميني تقريباً، ولكن يَنتج عبر تنويعاتها المختلفة عدداً ضخماً من المواد. المنسوجات تُصنع بصورة مشابهة: فالخيوط تصنع من الألياف، ومن الخيوط تنتج الأقمشة. وبمشاهدة الطبيعة يجد الإنسان أن الأمر لا يتوقف على سيقان النبات المكونة من الألياف، إذ أن العظام أيضا مكونة من الألياف، وتحليل هذه التركيبات الطبيعية ونقلها وتحويلها لتقنية جديدة يفتح مجالاً واسعاً ومثيراً.
عين الذبابة الواحدة تحتوي على ما يقرب من 28 ألف عدسة منفصلة وحساسة للضوء ما يسمح لها بالرؤية بزاوية 180 درجة، وهنا جاءت الفكرة لعلماء جامعة «إلينوي» بتصميم كاميرا متعددة العدسات حيث تحتوي على 180 عدسة منفصلة بذاتها تندمج في النهاية وتعطي صورة واحدة كاملة، ليتم استخدام هذه الكاميرات في المراقبة الجوية للطائرات الآلية، كما قامت إحدى الشركات الألمانية بتصنيع طلاء جديد، معتمدة على أوراق زهور اللوتس المغطاة بالملايين من الأشواك التي لا يمكن رؤيتها إلا بالمجهر، تلك الأشواك تعمل على صد الأوساخ والماء المتساقط على الورق وبالتالي تنظف سطح الورقة على الفور، فقامت بتصنيع طلاء يحتوي على عقد مجهرية في الخارج تعمل على عدم تماسك الأوساخ أو جزيئات الماء على السطح الخارجي، وتستخدم وكالة ناسا اليوم هذه الفكرة لطلاء بدلات الفضاء لمنع التصاق البكتريا بها، كما يمكن توظيف البيوميميتيك لتوفير استهلاك المياه حيث يتعلم الباحثون من قدرة الطبيعة على إصلاح نفسها، كما هو الحال عندما يقطع الشخص إصبعه خطأ. وهو ما أمكن تقليده، فأمكن إصلاح ثقوب في أنسجة تصل إلى 5 ملليمترات. فقد يمكن نقل السوائل إلى أعلى بلا مضخات على مثال نبات «الليانا» المتسلق الذي ينقل المياه حتى مسافة 1 كيلومتر، أي أن هذه الأنظمة ستقلل تبديد المياه وتوفر الطاقة في المضخات.
تبدو هذه الأفكار مثيرة للاهتمام، وتبشر بمستقبل مشرق يعيد القليل من الاحترام للام الكبرى والأولى، للطبيعة المنهكة من سوء استثمار الانسان للموارد التي تقدمها، وتلويث الكثير من مساحاتها الخضراء بسمومه الصناعية، إنها تذكّر اليوم بغنى التجربة التي حملتها ملايين السنين من التطور والاصطفاء، فهي المختبر الأشمل والأوسع الذي حدثت فيه كل التجارب، وقد يبدو من السخافة تجاهل النماذج الغنية المصقولة التي تقدمها يومياً بعد أن خضعت لشتى أنواع الاختبارات، إنها المحيط الواسع الذي يحتضن خلاصات الوعي البشري والضامن الأصدق لفعالية ابتكاراته، فما عليه سوى أن ينظر حوله ليتعلم المزيد.