المعرفة .. بين الـ«رقمي» و الـ«ورقي»

المعرفة .. بين الـ«رقمي» و الـ«ورقي»

مسحت الغبار المتراكم على واجهة الكتاب، لقد بقي عدة سنوات مرمياً على أحد رفوف خزانتي، إنه أحد المراجع القديمة يعود لأوائل أيام الدراسة، لقد رأيت نسخة الكترونية من الكتاب ذاته منذ يومين، لكني آثرت العودة إلى النسخة الورقية المحببة إلى قلبي

وعلى الرغم من اصفرار الصفحات وتشقق معظمها وهجرتها من دفتي ذلك الكتاب فقد وجدت العديد من الملاحظات الجانبية التي لن أجدها في أي مكان آخر، لم تكن الحال هكذا دائماً، فانا من المستخدمين المخلصين للوسائط الرقمية عند البدء بأي بحث أو العمل على مشروع جديد، وأفضّلها عن أي ورقة مطبوعة، لكن الأمر اختلف في حالة هذا الكتاب بالذات.

قد لا يرى البعض في كلامي هذا أي صواب، فالكتب الالكترونية قد اكتسحت الأوساط البحثية والعلمية وأحدثت ثورة سهلت حياة الكثير من الباحثين والمهتمين، وساهمت أساليب الفهرسة والتصنيف والالكترونية في توفير الكثير من الوقت بعد أن تحولت معظم دور النشر وأصحاب المكتبات الكبرى إلى التعامل بنسخ رقمية تطابق الأصول الورقية في المحتوى وتضاهيها في سهولة الاستخدام وحلّت لمسات شاشات الأجهزة والنقرْ محل قلب الصفحات ورائحة الورق والطباعة، فقد بدأت شركة أمازون بتوزيع الكتب الرقميّة غير المجانية عبر الإنترنت منذ العام 1998. ثم دخلت الميدان شركتا جوجل وآبل وشركات أخرى. ومنذ ذلك الوقت، ودور النشر تصارع ذلك الاجتياح الرقميّ الذي أثّر على مبيعاتها وسيرِ صناعتها، بعد أن اختبر الجميع فوائد النشر الالكتروني وقلّة التكاليف مقارنةً بالورقيّة، وكذلك الجنيِ المبكر للعوائد والأرباح لدى دور النشر وأصحاب المؤلفات على تنوعها.
على كل حال، يرى البعض أن الامر يدخل في نطاق التطور الطبيعي لوسائل المعرفة وأساليب انتقالها، فقد كانت المعارف في المجتمعات البدائية الأولى بسيطة ونفعية. لها صلة وثيقة بالمتطلبات المعيشية اليومية والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد والطقوس الدينية. وقبل ظهور الكتاب، كانت المعارف المستمدة من التجارب الحياتية شفوية. وكان الحكي و السرد هما سبيلي نقل و تداول المعارف، ثم تلا ذلك وضع و تطوير أبجديات متنوعة لتدوين وتسجيل تلك الأفكار، ثم أضحى الورق الوسيلة الوحيدة لتدوين المعارف البشرية والحفاظ عليها، ولتتسارع وتيرة نشر الكتب بأعداد متزايدة من النسخ بعد اختراع الطباعة، وليكون الكتاب في مختلف أشكاله وتمظهراته سيد الموقف. حيث كان وبدون منازع هو وعاء المعارف ومستودع العلوم ومرجعية الباحثين الأساسية. لكن انتشار مظاهر الثورة التقنية الحديثة قد حمل البعض على توقع اهتزاز ما في مكانة الكتاب وشعبيته، وكان ظهور الحواسيب الشخصية و انتشار الشبكة العنكبوتية العالمية التحدي الأكبر للكتاب الورقي، فقد قدمت ميزات جذابة لا يستهان بها على الإطلاق دفعت الجميع للتساؤل حول مصير الكتاب الورقي.
لا ينتهي الجدل بين المدافعين عن النشر الإلكتروني والمدافعين عن النشر الورقي عند هذا الحد، حيث يدافع المؤيدون للنشر الورقي، ولاسيما المعارضين للكتاب الإلكتروني عن وجهة نظرهم باعتبارهم بأن الكتاب الورقي هو الأبقى لما له من علاقة حميمة مع القارئ أو مع مقتني الكتاب الورقي والمهتمين باقتنائه. ويرى أصحاب هذا الرأي أن من مساوئ النشر الالكتروني أنه يتطلب القراءة في مكان محدد‏ وبطريقة محددة، فيما أن الكتاب الورقي يمكن أن يصحبه القارئ معه في القطار وفي غرفة النوم وفي كل مكان الأمر الذي ينتفي في الكتاب الالكتروني. المدافعون عن الكتاب الرقمي يدحضون هذه الحجة حيث يعتبرون أن الكتاب الورقي يأخذ شكل جسم مادي يتطلب الحمل والنقل والسفر والتوزيع والبيع والشراء، والتنقل داخل حدود جغرافية الخ.، في حين أن الكتاب الإلكتروني يتحرر من القيود السابقة كافة، حيث يمكن نسخه على القرص الصلب، أو الاسطوانة المرنة، دون اللجوء إلى إشغال حيز من المنزل تكدس فيه الكتب والأوراق والخرائط والأدوات المكتبية المختلفة. أما حول ردهم على مناهضي الكتاب الرقمي في ادعائهم بأن إحدى ميزات الكتاب التقليدي إمكانية اصطحابه إلى أي مكان، فالمدافعون عن الكتب الإلكترونية يعتقدون أن التقنية حلت كل المشاكل اليوم في ظل انتشار الحواسب التي يستطيع أن يحملها الشخص معه في أي مكان حتى ولو في السيارة أو الطيارة أو غرف النوم.
رغم كل هذه الاعتبارات فإن المصنفات الورقية كالمجلات والكتب ما زالت تحظى لدى القراء والمثقفين باهتمام أكبر من الاهتمام الذي يولونه لنظائرها الرقمية .ذلك أن المصنف الإلكتروني مجلة كان أم كتابا يكتسي صبغة افتراضية شبه وهمية تفقده المادية التي تجعله ملموسا محسوسا يمكن اقتناؤه وحمله وإهداؤه عند الحاجة. ويوفر الكتاب الورقي لصاحبه نوعا من الصحبة و الخصوصية لا يوفرها له الكتاب الالكتروني. كما أن القارئ أميل إلى الاحتفاظ بعلاقات حميمية مع الكتب الورقية أكثر مما عليه الشأن بالنسبة للكتب الرقمية الافتراضية. كما أن الكتاب الإلكتروني مازال يتغذى على الكتاب الورقي حيث أن جل الكتب الإلكترونية هي كتب ورقية محملة عن طريق الأنترنت، كما أن الكتاب و المؤلفين أميل إلى وضع مصنفاتهم أولا على شكل كتب ورقية لما تحظى به هذه الكتب من اعتبار و لما لها من سلطة اعتبارية تضفي على مؤلفيها حظوة و تقديرا لا يوفرهما الكتاب الإلكتروني.
يمكن القول إن الوسائط الرقمية لا تمثل خطراً كبيراً على الكتاب الورقي، وهذا ما تثبته الكثير من الإحصائيات الحديثة، وإن أي تراجع في نسبة اقتناء الكتب المطبوعة لن يلغي مستقبل الكتاب الورقي ولن يحول دون انتشاره لكونه لا يزال جزءا من العملية التعليمية، وهو المساهم الأساسي في استمرار مؤسسات اقتصادية كبرى، كما بإمكانه الوصول إلى أماكن كثيرة لا تغطيها شبكة الانترنت. لكن الخطر الأكبر يكمن في انكماش عادة القراءة بشكل عام وضمور الرغبة في التعلم و الاطلاع وفي تفشي الزهد في المعرفة وفي ازدراء الكتب و اللهث وراء الكسب السريع والهوس بالاستهلاك المحموم فهنا يكمن الخطر المميت ليس فقط على الكتاب الورقي ولكن على كل أدوات وآليات المعرفة  وعلى التطور الفكري والارتقاء الحضاري، وقد يبدو المستقبل فعلاً للنشر الالكتروني وقد يكون قد مضى للنشر الورقي مجد لن يتكرر، لكن الأمر سيعود في النهاية إلى ذوق القارئ الذي قد لا ينساق إلى مغريات المنشورات الالكترونية بعد انغماسه وتعلقه بصفحات الكتب الحقيقية، كما قد يهجر البعض المنشورات الورقية إلى الأبد بعد ان رأى في الكتب الالكترونية المعين المناسب للحصول على المعرفة التي يبتغي.
تابعت تقليب صفحات الكتاب مبتسماً، وفي كل صفحة عشرات من الذكريات تحملها خربشات وخطوط غريبة في كل مكان، لم أعد أبحث فقط عن معلومة منسية أو عن فكرة تائهة، بل تابعت تصفح باقي أبواب ذلك الكتاب لآخذ منها ما استطعت، ولتترك رائحة الأوراق وأصوات تقليبها صوتاً محبباً يذكر بالماضي ويثير في البال الكثير من الذكريات الدافئة، «هذا ليس كبقية الكتب!» قلت لنفسي «سأجد مكاناً أفضل له.. مكان جيد لا يترك كل هذا الغبار على الغلاف..»