تحف روسية وتركية وإيرانية في مهرجان المهرجانات
من جديد يلعب مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي في دورته لهذا العام، الدور المهم الذي كاد يكون وقفاً على مهرجان لندن قبل عقود: دور «مهرجان المهرجانات»، الذي يحاول مهرجان تورنتو الكندي كما غيره من المهرجانات الأقل شأناً، لعبه بين الحين والآخر. فالحقيقة أن المهتم بالسينما، ولا سيما منها سينما المهرجانات، ليس في حاجة ماسة لأن يتجول بين ما هو الأبرز منها لكي يشاهد أهم الأفلام الجديدة وأكثرها حداثة. حسبه أن يقصد مثلاً مهرجان كارلوفي فاري اليوم ليشاهد أبرز تلك الشرائط التي لم تتوقف الصحافة السينمائية المختصة وغير المختصة عن الحديث عنها منذ عروضها الأولى، أكان ذلك في «كان» أو «برلين» أو حتى غيرهما من المهرجانات الكبرى.
طبعاً ليس في الإمكان استعراض مجمل الأفلام المهرجانية التي باتت واسعة الشهرة والتي تتوزع اليوم في تظاهرات المهرجان التشيخي أو على أيامه وصالاته لتلقى إقبالاً وحضوراً يبدو في بعض الأحيان أكثر كثافة بكثير مما تتمتع به الأفلام التي تكتشف للمرة الأولى هنا، ولكن في وسعنا التوقف عند نماذج مدهشة تطاول أفلاماً عُرض معظمها في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» في شكل خاص، ونال عدد منها جوائز ذات شأن، وذلك بدءاً بالفيلم الأميركي الذي شكل واحدة من المفاجآت الكبرى في «كان»، إذ سجل عودة سبايك لي بعد غياب طويل عن مهرجان الجنوب الفرنسي، هو الذي حرد طويلاً لخروجه قبل عقود خالي الوفاض منه.
سبايك لي لم يخب رجاؤه هذه المرة، بل نال إحدى أكبر الجوائز الكانية بفيلمه «بلاكلانزمان» الذي روى الحكاية «الحقيقية» لرجل أسود عرف كي يختبئ وراء قناعه الكوكسكلاني ليتسلل إلى داخل ذلك التنظيم العنصري الإرهابي الأبيض الذي كان يتطلع إلى رمي السود خارج التراب الأميركي إن لم يتمكن من إعادتهم عبيداً.
ألوان الحرب الباردة وتقشفها
في المقابل يأتي من كوريا الجنوبية، مروراً بمهرجان «كان» أيضاً، فيلم لي تشانغ دونغ المقتبس عن قصة قصيرة للكاتب الياباني هاروكي موريكامي بعنوان «حريق». والفيلم -الذي كان من مفاجآت «كان» اللافتة- يتحدث عن علاقة ثلاثية غريبة ومقلقة بين شاب وفتاة محليين مرتبطين منذ الطفولة وبين رجل غريب تعود به الفتاة من رحلة قامت بها.
ومن بولندا يعرض كارلوفي فاري في التظاهرة ذاتها، الفيلم الذي كان نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى في «كان»، «الحرب الباردة» لبافيل بافليكوفسكي، وهو الفيلم الذي قام من حوله إجماع منذ عرضه في التظاهرة الكانية وكان المرجح أكثر من غيره للفوز بالسعفة الذهبية التي نافسه عليها وفاز بها أخيراً فيلم «سارقو الحوانيت» الياباني.
والأكيد ان العرض الجديد لهذا الفيلم المتقشف (أسود وأبيض، وبشاشة مربعة على طراز أفلام الستينات) والطموح (يروي جزءاً من تاريخ عقدي الخمسينات والستينات من خلال علاقة حب بين موسيقي وتلميذته الصبية الموهوبة على خلفية الحرب الباردة بين «الشرق» و «الغرب» والهيمنة الستالينية الفنية والسياسية على بلدان وشعوب المعسكر الاشتراكي).
العرض الجديد سيكون مناسبة، نادرة ربما، لمشاهدة عمل سينمائي رومانسي وسياسي وقاس وحنون في الوقت ذاته، ما يعد بمكانة ما لهذا الفيلم في العروض السينمائية الأكثر جدية في عالم السينما المميزة خلال ما تبقى من شهور العام.
والحقيقة أنه كان من الممكن قول الشيء ذاته عن الفيلم الإسباني الذي حققه الإيراني أصغر فرهادي من بطولة بينيلوبي كروز وخافيير بارديم وافتتح به مهرجان «كان» نفسه دورته الأخيرة، لكن مشكلة هذا الفيلم الذي أتى أقرب إلى سينما بيدرو ألمودافار منه إلى سينما فرهادي، كمنت في أنه أكد مرة أخرى بعد «الماضي» الفرنسي لفرهادي نفسه، أن هذا الأخير لا يمكنه أن يكون خارج بيئته الإيرانية على تلك القوة التي تتميز بها أفلامه المحلية (من «عن إيللي» إلى «الزبون» مروراً طبعاً بـ «انفصال» و «عيد النار»). طبعاً لا يعني هذا الكلام أن «الكل يعرف» فيلم ضعيف، بل إنه ليس فرهادياً بالمقدار الذي كان هواة السينما يتوقعون. بيد أن هذا الكلام لا ينطبق على الفيلم الإيراني الآخر الذي يعرضه كارلوفي فاري بعد «كان»، وهو «ثلاثة وجوه» لجعفر باناهي، وهو عمل قوي وفيلم طريق، يعود فيه باناهي إلى السينما داخل السينما، وإن لم يكن بالمعنى الحرفي للكلمة، ليقدم حكاية علاماتها ثلاث ممثلات، اثنتان منهما راسختان والثالثة تحاول أن تدخل المجال الفني وذلك من خلال حكاية تكاد تكون كياروستامية يلعب فيها باناهي نفسه –برغم إقامته الجبرية ومنع السلطات إياه من الحركة وتحقيق الأفلام– دوره الحقيقي في الحياة والسينما عبر رحلة بحث برفقة نجمة كبيرة عن فتاة تريد ان تصبح ممثلة، لكن أهلها يعارضون فتدعي الانتحار.
تشيخوف التركي
وإذا كان في وسع السينما العربية أن تفخر بكون اثنين من خيرة ما أنتجته في الشهور الفائتة، «واجب» للفلسطينية آن ماري جاسر، و «يا ولدي» للتونسي محمد بن عطية، يمكن احتسابهما ضمن إطار هذه المجموعة المهرجانية من الأفلام المعروضة في كارلوفي فاري، إلى جانب عروض عربية أخرى من لبنان ومصر وغيرهما نعود إليهما في رسائل لاحقة، فإن السينما التركية ستكون أكثر فخراً بكثير إذ يعرض المهرجان التشيخي في دورة هذا العام الفيلم الذي ربما كان منتظراً أكثر من أي فيلم آخر في «كان» هذا العام وحقق المأمول منه، حتى وإن لم تكن لجنة التحكيم -بإجماع النقاد- قد تنبهت إليه وأدركت أنه واحد من أكبر الأفلام السينمائية التي عرضت هذا العام... وربما أيضاً واحد من أطولها، ثلاث ساعات ونيّف يدور معظمها حول حوارات تقطع الأنفاس وتعيد تشيخوف إلى الشاشة من موقع القوة في وقت يطرح معظم المسائل الشائكة، فلسفياً وإبداعياً وعاطفياً ودينياً في عالم اليوم. ما نتحدث عنه هنا هو «شجرة الإجاص البري» لنوري بلغي جيلان الذي يمكن القول إن عرضيه في دورة كارلوفي فاري يشكّلان لحظتين سينمائيتين كبيرتين.
وهو ما يمكن قوله على أي حال، عن ثلاثة أفلام باقية هنا في لائحتنا، ربما يكون أكثرها جاذبية فيلم الإيطالية آليس رورفاشر «لازارو السعيد» الذي فاز بجائزة السيناريو في «كان» الماضي شراكة مع فيلم جعفر باناهي، لكنه كان قبل ذلك قد حاز على إجماع النقاد الذين رشحوه يومها لجائزة كبرى منذ عرض للمرة الأولى. فيلم «لازارو السعيد» يبدو محملاً إلى حد كبير بإرث يجمع بين سينما «المعجزة» كما عند روسليني وسينما المسحوقين كما عند إيتوري سكولا، في لغة حديثة وصاخبة تكاد تقول، وإن بأشكال مواربة، كل ما يمكن اليوم قوله من حول إيطاليا وأحوالها المعاصرة، بحسب النقاد الذين تحدثوا عنه بحماسة، ويزداد حديثهم عنه اليوم على ضوء التطورات السياسية الحاصلة في إيطاليا القريبة.
بريجنيف من جديد.
وإذا كان الماضي البريجنيفي يطل بمغزى لا بد من التنبه إليه في مهرجان كارلوفي فاري من خلال الفيلم الروسي الجديد «الصيف»، الآتي بدوره عن طريق الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» حيث نال مخرجه الممنوع من الحركة في بلاده كيريل سيريبرينيكوف، تنويهاً سياسياً خاصاً من جانب رئيسة لجنة التحكيم كيت بلانشيت جمعه مع جعفر باناهي في بوتقة واحدة، فإن من الأكيد أنه هنا في البلد الاشتراكي السابق، يتخذ دلالة مغايرة وبالغة الأهمية من خلال موضوعه الذي يطاول جانباً من سيرة مغني لينينغراد الصاخب آخر أيام البريجنيفية والقمع الستاليني لكل ما هو مغاير، ولا سيما في بلد تحل فيه إواليات القمع الشوفيني والقومي محل إواليات القمع السياسي الستاليني في قهر كل ما هو طليعي وإنساني. أو هكذا على الأقل فُهم «الصيف» ويستقبل هنا في كارلوفي فاري بتشوق كبير.
وهذا التشوق ذاته يمكن الحديث عنه أيضاً بصدد فيلم يأتي من تاريخ السينما وأساطيرها ليزين المهرجان التشيخي بعطر سينمائي أخاذ يتضافر مع العطر الأدبي الذي يمكن رواية لسرفانتس أسست لفن الرواية الحديثة في العالم أن تضخه. فهنا، كما كان الأمر في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» أيضاً، ها هي الفرصة تتاح لعرضين على الأقل لفيلم الإنكليزي تييري جيليام الأسطوري «الرجل الذي قتل دون كيشوت» الذي لم يكتمل ابداً منذ تصوير أولى مشاهده قبل أكثر من ربع قرن، كي يعود إلى واجهة الأحداث السينمائية ومن باب عريض يتمثل اليوم في مهرجان كارلوفي فاري الذي بات في جانب منه يشعر محب السينما بأنه قادر على الاستغناء عن جولات طويلة بين المهرجانات!