وظائف تموت... وأخرى تولد

وظائف تموت... وأخرى تولد

كان الأمر سهلاً للغاية. ففي مطعم ماكدونالدز في منطقة فارنبراه جنوب غربي لندن، لم يكن من الضروري الوقوف في صف لدقائق عدة قبل طلب ساندويش البرغر مع البطاطس المقلية ودفع الحساب ثم انتظار الطلب. فهناك ثلاث آلات جديدة وضعت في جانب من المطعم سهلت الأمور تماماً. فعليها لائحة الطعام والمشروبات وما عليك سوى أن تضغط لتختار ما تريده، ثم تضغط لدفع الحساب، وتذهب إلى طاولتك وتجد الطلب في طريقه إليك.

هذه الآلة الصغيرة التي يفترض أن تكون دليلاً على قدرة الماكينة على تحسين وتيرة الخدمة في ماكدونالدز وتسريعها، والتي بدأ العمل بها في آلاف من مطاعم السلسلة في أميركا وأوروبا، أثارت مخاوف وغضباً من أن تكون مقدّمة للاستغناء عن مئات آلاف العاملين في هذه المؤسسة العملاقة، ما دعاها إلى إصدار بيانات تؤكّد فيها أنها لن تستغني عن العاملين لديها، لكن ستنقلهم تدريجاً إلى وظائف أخرى.

الماكينة ليست شيئاً جديداً أو مخيفاً بحد ذاته. لكن الجديد، وربما المخيف هو الماكينة والذكاء الاصطناعي معاً. فهما قادران على تغيير العالم في شكل جذري والمجتمع وطبيعة العمل والوظائف ودور الدولة ومعنى التعليم ودوره.

فـ50 في المئة من وظائف يمكن أن تصبح «آلية» أو يقوم بها روبوت خلال العقدين المقبلين، وفي مقدمها الوظائف في قطاع الخدمات التي هي اليوم المصدر الأول للتوظيف في العالم.

التحدّي الذي يطرحه هذا المستقبل دعا رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في كلمتها أمام المؤتمر السنوي لحزب المحافظين، إلى طرح أفكار حول تغيير برامج التدريب والتعليم في البلاد من أجل تأهيل اليد العاملة لمواجهة تحدّي الماكينة ومنافسة الروبوت للإنسان، لا سيما أن التعليم التقليدي لم يعد قادراً على الاستجابة لحاجات السوق في هذا الإطار.

فقد دخلت الماكينة قطاعات وأعمالاً لم يكن من المتخيّل أن تدخلها قبل سنوات قليلة ماضية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، العالم على أعتاب السيارة ذاتية القيادة. كما أنه دخل مرحلة الجرّاح الآلي الذي يجري عدداً كبيراً من التدخلات الجراحية المعقّدة من دون توقف أو تعب أو خطأ. وهو على أعتاب الطبيب الإلكتروني القادر على تشخيص المرض ووصف العلاج من دون تدخّل بشري.

والماكينة الواسعة النطاق، ليست طبعاً ظاهرة حديثة فهي تعود للقرن الـ18، وجوهرها أن آلات تقوم بأعمال محددة ومكررة وعلى نطاق واسع وسريع ومن دون أخطاء.

ومنذ ثلاثينات القرن الـ20، مروراً بخمسيناته وحتى اليوم، ماتت وظائف ولم يعد لها وجود. فطبقة عمال المصانع والمزارعين، وعمال السكك الحديد اختفت من أوروبا وأميركا تقريباً. كما اختفى العمال في محطات البنزين وشركات السياحة وشركات الهاتف. لكن الـ40 أو الـ50 مليون شخص الذين خرجوا من سوق العمل في هذه الوظائف لم يصبحوا عاطلين من العمل. ففي مقابل تراجع طبقة عمال المصانع والمزارعين، ظهرت طبقة الموظفين والفنيين والتقنيين العاملين في القطاعات الخدمية والمالية والتكنولوجية التي بدأت في النمو خلال العقود الثلاثة الماضية.

وبهذا المعنى لم تكن الماكينة التقليدية خطراً حتمياً على التوظيف. بل على النقيض ساعدت في تحسين الأداء البشري بخفض الوقت وزيادة الإنتاجية. وبزيادة الإنتاج الصناعي أمكن إيجاد مزيد من الوظائف الجديدة وتشغيل مزيد في عالم يتزايد فيه تعداد سكان العالم في شكل مطرد وسريع.

وعلى رغم أن الماكينة أخرجت حوالى 10 ملايين بريطاني من قطاعات الزراعة والصناعة والتعدين والشحن خلال العقود الأربعة الماضية، إلا أنها أوجدت 10 ملايين فرصة عمل أخرى في قطاعات جديدة بعضها لم يكن موجوداً من قبل وفي مقدمها الخدمات المالية الجديدة وتكنولوجيا المعلومات.

لكن الماكينة مع الذكاء الاصطناعي خليط أكثر خطراً بكثير. وهي التحدي الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الذي يواجه بريطانيا ومعها بلدان غربية كثيرة. إذ إنها مع الذكاء الاصطناعي لا تقود إلى آلات تقوم بوظائف محددة ومكررة، بل تقود إلى آلات قادرة على القيام بعمليات تتطلّب ذكاء وقدرة على التحليل واتخاذ قرارات فورية من دون تدخّل بشري.

الماكينة الحديثة قادرة على تخزين المعلومات وتحليلها. فعندما تبحث مثلاً عن ألبوم موسيقى على الإنترنت أو كتاب جديد عن الاحتباس الحراري، ستلاحقك إعلانات ألبومات الموسيقى والكتب الجديدة عن مشكلات المناخ. فالمعلومات المخزنة تُحلل آلياً وتبدأ الماكينة في تقديم مقترحات لك بناء على المعلومات التي تجمّعت عنك.

ولا تزال قدرة الآلة على تخزين المعلومات وتحليلها والتعلّم والاستفادة منها واتخاذ قرارات بناء عليها، في بدايتها وتهدد بنموذج جديد لم يعرفه العالم من قبل، تلعب فيه الآلات دوراً في تحديد ماذا يقرأ الفرد «أونلاين» وماذا يشاهد وكيف يمكن استمالته لاستهلاك سلع أو منتجات.

قدرة الماكينة والذكاء الاصطناعي معاً على تقديم خيارات لم تكن متاحة للشركات والحكومات، فتحت الباب أمام تطورات لا سابق لها في سوق العمل. فاليوم تُستثمر بلايين الدولارات من أجل تطوير روبوت قادر على القيام بكل شيء تقريباً بعدما طوّرت نسخة قادرة على قيادة الطائرات أوتوماتيكياً، وتشخيص الأمراض، والمضاربة في البورصة، والعناية بكبار السن.