حان وقت انهيار «إسرائيل» من الداخل
قال ريتشارد وولف في محاضرته الأخيرة: «حين تتقاطع التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في نظامٍ واحد، فإن التاريخ لا يُعيد الأمور إلى نصابها، بل يُعيد صياغتها». تنطبق هذه المقولة بعمق على الحالة «الإسرائيلية» الراهنة، إذ تقف «إسرائيل» عند نقطة تحوّل بنيوية لا يمكن التراجع عنها، بعدما بلغ التوتر بين أركان الدولة ــ الاقتصاد والسياسة والمجتمع ــ ذروةً لا تسمح بالعودة إلى ما قبلها.
ما يحدث ليس أزمة طارئة، بل نهاية مرحلة كاملة. كما قال عالم الاجتماع زيغمونت باومان: «الأزمة ليست حدثاً يُعالج، بل حالة تكشف عن ضعف البنية ذاتها». و«إسرائيل»، في جوهرها، تواجه لحظة انكشاف شامل لبنيتها المتناقضة.
الاقتصاد بين تدخل الدولة والنيوليبرالية
منذ قيامها عام 1948، تبنّت «إسرائيل» نموذجاً اقتصادياً يقوم على التدخّل الحكومي والتخطيط المركزي.
كانت دولة «البقاء الجماعي» نموذجاً تديره مؤسسات، مثل: الهستدروت والقطاع العام. هذا النموذج، كما يُشير وولف، «لم يكن اختياراً أيديولوجياً، بل شرطاً وجودياً في بيئة معادية».
لكن منذ الثمانينيات، انتقلت «إسرائيل» إلى مرحلة التحرير النيوليبرالي، تماشياً مع موجة ريغان وتاتشر، فجرى تفكيك القطاع العام وخصخصة الصناعات، وبدأ رأس المال العالمي يتدفق إلى تل أبيب. ومن هنا، نشأت أسطورة «دولة الشركات الناشئة».
تقول عالمة الاقتصاد «داني رودريك» من جامعة هارفارد: «النيوليبرالية لا تُوحّد المجتمعات، بل تخلق هوةً بين الكفاءة والعدالة». وهذا ما حدث في «إسرائيل»، فقد ولّدت سياسات السوق الحرة تفاوتاً غير مسبوق. وفق تقارير الـ OECD في عام 2023، بلغ معامل جيني الذي يدل بارتفاعه على ارتفاع نسب اللا مساواة إلى أكثر من 0.37، وهو من الأعلى في العالم المتقدم. كما يشير مركز «تاوب» إلى أنّ 20% من الأسر تعيش تحت خط الفقر، وأنّ الفقر يتركّز في أوساط العرب والحريديم بنسبة تقارب ضعف حصتهم السكانية.
أما «جوزيف ستيغليتز» فيرى أنّ «الأسواق غير المنضبطة تولّد اللا استقرار السياسي بقدر ما تولّد الثروة». وينطبق هذا على «إسرائيل» التي حوّلت تفوّقها التكنولوجي إلى ريعٍ يملكه أقلّ من 10% من السكان، فبحسب معهد Shoresh في عام 2024، يُشكّل قطاع التكنولوجيا الفائقة نحو 15% من الناتج المحلي، لكنه يوظّف 10% فقط من القوى العاملة، ويُولّد أكثر من ثلث إيرادات ضريبة الدخل.
إنّ الاقتصاد الذي يعتمد على نخبة صغيرة لتأمين النمو، بينما تتآكل الطبقات الوسطى، لا يمكن أن يظل مستقراً. وهذا ينطبق على الكيان بغض النظر عن مدى الدعم الذي يحصل عليه لإبقائه واقفاً.
أزمة السكن وتفكك العقد الاجتماعي
يقول وولف: «عندما يُقاس الأمن بالقدرة على دفع الإيجار، فالمجتمع قد دخل مرحلة الانهيار الصامت». منذ احتجاجات 2011 التي عمّت شوارع تل أبيب، أصبح السكن مرآة التفاوت الاجتماعي. بحسب بنك «إسرائيل» في عام 2024، ارتفعت أسعار الشقق بنسبة 7.5% عام 2023، وتجاوزت كلفة السكن 30% من متوسط الدخل، وهي من الأعلى في العالم الصناعي.
وتؤكد «إليزابيث ماكينا»، الباحثة في جامعة أكسفورد، أنّ «سياسات الإسكان في «إسرائيل» باتت تُعبّر عن صراع طبقي أكثر من كونها أداة تخطيط عمراني». فالأحياء المركزية مخصصة لرأس المال الدولي والمضاربين، بينما تُدفع الطبقات الشابة والفقيرة إلى الهامش أو إلى الديون.
أزمة السكن لم تعد مسألة اقتصادية فحسب، بل لحظة انكشاف للعقد الاجتماعي الذي وعد بالمساواة مقابل الولاء للدولة. ومع تفكك هذا العقد، تتراجع شرعية السلطة أمام جيلٍ لم يعد يرى في الدولة كياناً ضامناً، بل سوقاً مفتوحاً لا مكان فيه إلا للأقوياء.
السياسة في فخّ الأزمة الدائمة
منذ صعود الليكود في سبعينيات القرن الماضي، تحوّل مركز الثقل السياسي من «الاشتراكية الوطنية» إلى النيوليبرالية القومية. ويُجسّد بنيامين نتنياهو هذا التزاوج بين رأس المال العالمي والنزعة الاستبدادية المحلية. فهو، كما يصفه وولف، «المزيج المثالي لليبرالية الجديدة التي تحتاج دائماً إلى عدوّ لتبرير إخفاقها».
توضح دراسات Navot & Roznai في عام 2023 أنّ خطة «إعادة تشكيل القضاء» ليست مجرد إصلاح قانوني، بل جزء من محاولة شاملة لإعادة تعريف السلطة لصالح التنفيذ، ما يهدد الفصل بين السلطات، ويحوّل الديمقراطية إلى واجهة.
ويقول المؤرخ «الإسرائيلي» إيلان بابِه: «الدولة التي تبني مشروعها السياسي على الخوف تحتاج إلى أزمة دائمة لتبقى». هذا النمط، كما يشرح وولف، يُنتج دولة لا تستطيع الحكم إلا بالاستقطاب، ولا تستطيع الاستقرار إلا بالحرب.
المجتمع الممزق والإثنوقراطية المستمرة
يصف عالم الجغرافيا السياسي أورن يفتاحئي «إسرائيل» بأنها إثنوقراطية، أي نظام ديمقراطي شكلاً واستعمارياً مضموناً، تُوزّع فيه الحقوق والفرص على أساس الانتماء القومي لا على أساس المواطنة. تؤكد بيانات «التأمين الوطني» لعام 2023 أنّ الأسر العربية والحريدية تمثل نصف الأسر الفقيرة تقريباً، رغم أن نسبتها السكانية أقل من الثلث. هذا يعني أن «الهوية» ما زالت محدِّداً اقتصادياً واجتماعياً بامتياز.
أما المهاجرون الروس والإثيوبيون والمزراحيون، فيعيشون بدورهم على تخوم الامتياز الأشكنازي التاريخي، في سلسلةٍ من الدوائر المتراكزة التي تُعيد إنتاج الهرمية العرقية والاجتماعية جيلاً بعد جيل.
يقول أمارتيا سِن في كتابه الهوية والعنف: «عندما يُختزل الإنسان في انتمائه الوحيد، يتحول المجتمع إلى سجنٍ من المرايا». وهذه الجملة تختصر المشهد الإسرائيلي الراهن: مجتمعات مغلقة على نفسها، تفقد الثقة ببعضها وبمؤسساتها، ولا يجمعها سوى لغة الخوف.
عسكرة الاقتصاد وتحويل الأمن إلى سلعة
وفق معهد ستوكهولم لأبحاث السلام «SIPRI» في عام 2024، بلغ الإنفاق العسكري الإسرائيلي 46.5 مليار دولار، أي 8.8% من الناتج المحلي- ثاني أعلى نسبة في العالم بعد أوكرانيا، هذه النسبة لا تُعبّر فقط عن أولوية الأمن، بل عن تحوّل العسكرة إلى قطاع ربحٍ.
يقول وولف: «حين تصبح الحرب مورداً، تفقد الدولة قدرتها على السلام». فشركات الأمن السيبراني والطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة تُختبر في الأراضي الفلسطينية ثم تُباع عالمياً، فيتحوّل الاحتلال إلى مختبر اقتصادي ومصدر ربح رأسمالي.
العسكرة بهذا المعنى ليست دفاعاً بل نموذج إنتاج. فهي تُعيد توجيه الموارد بعيداً عن الصحة والتعليم، وتحوّل الجيش إلى آلية فرز طبقي: من يخدم في وحدات النخبة يجد طريقه إلى وظائف التكنولوجيا الفائقة، ومن يُستبعد يبقى في الهامش. وهكذا، يتجسّد التفاوت الاجتماعي في بنية الأمن ذاتها.
تآكل الشرعية وانهيار الثقة المؤسسية
بيّنت دراسات «Israel Democracy Institute» في 2024 أنّ أقل من 48% من «الإسرائيليين» يثقون بالمؤسسات السياسية، وهي أدنى نسبة منذ تأسيس الدولة. كما تُظهر استطلاعات الرأي أنّ الجيش– المؤسسة التي كانت رمز الإجماع– لم يعد يُنظر إليه كجدارٍ جامع، بل كأداةٍ للتمييز والامتياز.
وفي هذا السياق يقول عالم الاجتماع مانويل كاستيلز: «حين تنهار شبكات الثقة، لا تنفجر الأنظمة فوراً، لكنها تتحلل من الداخل». وهذا ما يحدث في «إسرائيل» اليوم: التحلّل البطيء للنظام من داخل مؤسساته التي لم تعد قادرة على تمثيل مجتمعها.
سيناريوهات المستقبل
التحليل البنيوي يشير إلى مسارين متقابلين:
الاستبداد المعسكر: أي استمرار النيوليبرالية مقرونة بالقومية المتطرفة، وقمع الاحتجاجات، وتبرير الهيمنة بالتهديد الوجودي.
التحول الديمقراطي التحويلي: أي صعود حركات اجتماعية جديدة تطالب بالعدالة والمساواة، وربما بإعادة تعريف هوية الدولة ذاتها، ممّا يعني انهيار «إسرائيل» بشكل كلي.
لكن كما كتب كارل بولاني في «التحول الكبير»: «الأسواق تُدمّر المجتمعات ما لم تُكبح بقيود الديمقراطية». و«إسرائيل»، في غياب هذه القيود، تواجه خيارها الحاسم: إمّا التصلّب في الاستبداد، أو القفز نحو عقدٍ اجتماعي جديد.
يقول ريتشارد وولف: «كل المجتمعات التي تبني استقرارها على التناقض، تصل في النهاية إلى لحظة الحساب». تلك هي اللحظة «الإسرائيلية» اليوم. اقتصادٌ يزداد تركيزاً، ومجتمعٌ يتفتّت، وسياسةٌ تحيا بالأزمة. الأسطورة التي طالما روّجت لها «إسرائيل»– «الاستقرار وسط الصراع» – تتداعى.
كما قال وولف عن بداية حرب غزة: «بعد هذه الليلة، لن تكون إسرائيل كما كانت». لا لأنّ حدثاً دراماتيكياً وقع، بل لأنّ التاريخ ذاته تحرك، والتناقضات التي بُني عليها النظام لم تعد قابلة للإدارة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1248