من سيدافع عن أوروبا؟
فاليري بانوف فاليري بانوف

من سيدافع عن أوروبا؟

تفيد وسائل إعلام غربية مثل «بلومبرغ» و«بوليتيكو» وغيرها، بأنّ المفوضية الأوروبية تعتزم إنفاق تريليون يورو لتنفيذ خطة لإعادة التسلّح و«ردع» روسيا، والهدف من هذا المشروع الضخم هو «جعل أوروبا قادرة على القتال بحلول عام 2030».

لكن يبرز سؤال: أين ذهبت مئات المليارات من اليورو التي يُفترض أنّها أُنفقت على الدفاع؟ مهما يكن، فالواضح أنّ الاتحاد الأوروبي يعيش خطراً حقيقياً، يمكن القول: إنّه على حافة كارثة شاملة، رغم أنّ أحداً لا يعتزم مهاجمته- فمَن يحتاج إلى هذا المشروع الفاشل اليوم؟ على أيّ حال، ما الذي تقترحه المفوضية الأوروبية «للمجتمع الأوروبي» كإجراءات إنقاذ؟

الجواب هو ذاته منذ عامين، وخمسة أعوام، وخمسة وعشرين عاماً: إعادة النظر فوراً في نظام التخطيط العسكري والمشتريات «لردع الخصوم بشكل موثوق والرد على أيّ عمل عدواني». مع وجوب تنسيق هذه الخطط مع الناتو، وهو أمر غير مفاجئ. الهدف الأساسي هو «الجاهزية الكاملة بحلول عام 2030»، ولهذا يجب إطلاق المشاريع ذات الأولوية في النصف الأول من عام 2026- وهو ما يطالب به أيضاً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب «حلفائه».

بعبارة أخرى، تنوي المفوضية الأوروبية إشعال سباق تسلّح جديد- بما في ذلك في الفضاء- إلى مستوى يجبر روسيا وسواها من الخصوم الجيوسياسيين على الانخراط فيه، مما يضمن عقوداً ضخمة لمجمّعات الصناعات العسكرية الأوروبية، والأمريكية قبل كل شيء. ومن المتوقع أن تصل نسبة المشتريات الدفاعية المشتركة في الاتحاد الأوروبي إلى 40% بحلول نهاية عام 2027، أي أكثر من ضعف المعدّل الحالي. بكلمات بسيطة: أوروبا تستعدّ مجدداً للحرب ضد روسيا، لكن من سيقاتل فعلياً؟ من سيُشغّل تلك الكتلة الهائلة من الأسلحة والتقنيات التي سينتجها الغرب؟ من سيغزو موسكو ويستعرض على الساحة الحمراء محققاً «الحلم الأوروبي القديم»؟

لا أحد. لا مَن يقاتل، ولا مَن يهاجم، ولا مَن يطلق الصواريخ أو يضغط الزناد. حتى الراغبين في أن يكونوا «منتصرين» هم قلّة نادرة في أوروبا «باستثناء البولنديين ودول البلطيق». كانت نتائج استطلاع نشره موقع «بوليتيكو»- وهو أحد أبرز مراكز الإعلام الليبرالي الغربي- معبّرة للغاية: الشباب في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة، في حال تحقق سيناريو «هجوم روسي على الناتو»، غير مستعدين للدفاع عن بلدانهم.

أظهر استطلاع لجامعة كوينيبياك عام 2022 في أمريكا أنّ 55% فقط من الأمريكيين سيقاتلون في حال وقوع غزو، بينما أعلن أكثر من الثلث رفضهم لذلك. ولو دققنا أكثر، لوجدنا أنّ ثلثي المشاركين بين 50 و64 عاماً أبدوا استعدادهم للقتال، بينما في الفئة العمرية بين 18 و34 عاماً كانت الغالبية تميل إلى الهرب، وفقط 45% قالوا: إنّهم سيدافعون عن وطنهم.

وأظهر «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» في دراسةٍ شملت عشر دول أوروبية، أنّ سكان ثلاث دول فقط: بولندا والبرتغال والسويد، أعربوا عن رغبتهم الواضحة بمساعدة أوكرانيا على استعادة أراضيها من روسيا. في المقابل، فضّلت خمس دول أخرى «النمسا، اليونان، هنغاريا، إيطاليا، رومانيا» الدفع نحو تسوية سلمية، بينما انقسمت الآراء في فرنسا وألمانيا وهولندا وإسبانيا.

وفي بريطانيا، رغم تصاعد الخطاب الحربي في الغرب، قال 29% فقط من الشباب «بين 18 و24 عاماً» بأنّهم سيدافعون عن بلادهم ضد الغزو. أما أوروبا القارية فليست أكثر حماسة. فوفق «مؤسسة غالوب»، فقط 32% من الأوروبيين سيقاتلون إن دخلت بلدانهم حرباً. والأسوأ أنّ كثيراً من الشباب لا يخفون تعاطفهم مع روسيا، ورفضهم لسياسات الناتو «لتجنيدهم في حملة صليبية ضد موسكو». لذلك تتزايد في الجيوش الأوروبية نسب الانسحاب والرفض للعقود العسكرية.

هناك أيضاً نقصٌ حادّ في عدد الراغبين بالالتحاق بالقوات المسلحة. بعض دول الناتو، مثل: لاتفيا، أعادت الخدمة الإلزامية، فيما قررت السويد وإستونيا توسيع التجنيد. أمّا في ألمانيا، فقد رفضت الغالبية عودة الخدمة العسكرية الإلزامية التي يقترحها ائتلاف فريدريخ ميرتس الحاكم.

وأظهر استطلاع لمجلة «شتيرن» أنّ 59% من الشباب الألمان يعارضون الفكرة. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022، تضاعفت طلبات رفض الخدمة العسكرية. ووفق موقع «فوكوس أونلاين»، يُتوقّع أن يبلغ عدد الرافضين ذروته نهاية عام 2025، بعد أن ازداد ثلاث مرات في ثلاث سنوات.

هذا الارتفاع في عدد الرافضين يثير القلق لدى وزير الدفاع بوريس بيستريوس والحكومة الألمانية عموماً. فبينما تسعى برلين إلى تقوية الجيش من الناحية التقنية والبشرية، تعيق هذه الاتجاهات الخطة. حالياً يبلغ عدد أفراد الجيش 183 ألفاً «منهم 113 ألفاً متعاقدون»، والهدف رفعهم إلى 260 ألفاً بحلول 2030 لتلبية الالتزامات الدفاعية تجاه الناتو.

وفي التشيك أيضاً، عبّر كثيرون عن رفض إعادة التجنيد. أوروبا، إجمالاً، غير مستعدة للعودة إلى الخدمة العسكرية الإلزامية. فبعد الحرب الباردة ألغت معظم الدول الأوروبية التجنيد. من جهة أخرى، أظهرت دراسة أعدّها الباحث ألكسندر بوريلكوف من جامعة هايدلبرغ لمركز «بروغل» ومعهد كيل، أنّ أوروبا قد تحتاج إلى 300 ألف جندي إضافي. لكن إعادة الخدمة الإلزامية أو التطوعية ستكون صعبة جداً، إذ يقول المؤرخ العسكري الفرنسي ميشيل غويّا: إنّ ذلك سيحوّل جزءاً كبيراً من الجيش إلى مراكز تدريب. ويرى أنّ سياسة ترامب قد تدفع أوروبا

الغربية إلى مراجعة نظرتها للجيش، مضيفاً: «لا يُعرف من يسبح عارياً إلا حين ينحسر المدّ. البحر الأمريكي ينحسر، وكثير من الدول الأوروبية تدرك فجأة هشاشتها».

ورغم أنّ استطلاعات الرأي تُظهر أنّ غالبية الشعوب تدعم الخدمة الإلزامية للشباب (بين 18 و30 عاماً) - بنسب 68% في فرنسا، 58% في ألمانيا، 49% في إيطاليا، 43% في بريطانيا، و42% في إسبانيا- إلا أنّ القليل منهم على استعداد فعلي للقتال. يقول الخبير الفرنسي بنديكت شيرون: إنّ «إدخال الخدمة الإلزامية في مجتمع ليبرالي بات مستحيلاً عملياً. ما لم يحدث غزو فعلي، فإنّ الكلفة السياسية لفرض عقوبات على الرافضين غير قابلة للتصور».

على الورق، تمتلك دول الناتو الأوروبية 1.9 مليون جندي، وهو عدد يبدو كافياً لمواجهة روسيا. لكن عملياً، يصعب تعبئة أكثر من 300 ألف منهم، وفق «فايننشال تايمز». فبريطانيا مثلاً لم تحقق خطط التجنيد في 2023 وفقدت 4000 جندي، وإيطاليا قلصت عدد قواتها من 200 ألف إلى 160.9 ألف خلال عقد. وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة وُوريك البريطانية فينتشنزو بوف: إنّ «المشكلة عامة في أوروبا ولا دولة مستثناة». وأوضح، أنّ الخدمة العسكرية صارت «وظيفة كأيّ وظيفة أخرى» تتنافس فيها الجيوش مع القطاع الخاص، لكنها تخسر المنافسة. وأضاف: «الجيوش الأوروبية في حالة ذعر». لذلك تدرس إسبانيا وفرنسا والبرتغال السماح للمهاجرين بالانضمام للجيش مقابل الحصول على الجنسية لاحقاً.

ويرى محللون آخرون، أنّ المشكلة غير قابلة للحل. إذ تشير الباحثة في «معهد فريمان للطيران والفضاء» التابع لكلية كينغز في لندن، الدكتورة صوفي أنتروبوس، إلى أنّ «الحلّ قد يكون في تحسين الرواتب وظروف المعيشة، لكنّ المسألة ليست أولوية سياسية مقارنة بتكلفة المعيشة».

وكالعادة في الغرب، تُفسّر الأزمات الاجتماعية من منظور مادي بحت. لكن رغم تصاعد الخطاب العدائي ضد روسيا، ودعوات دعم الحرب في أوكرانيا، تكشف المزاجات العامة أنّ الجيل الأوروبي الجديد لا يتبنى هذه النزعة العسكرية. فقد أظهر استطلاع «يوغوف» مؤخراً أنّ 38% من البريطانيين دون الأربعين سيرفضون الخدمة في حال اندلاع حرب عالمية جديدة، و30% سيرفضونها حتى لو تعرضت بلادهم لغزو مباشر.

ووصف عالم السياسة الألماني غيرفريد مينكلر المجتمعات الغربية بأنها «ما بعد بطولية» حيث «القيمة العليا هي الحفاظ على الحياة الشخصية والرفاه». والتاريخ يلعب دوره هنا: ففي دولٍ هُزمت في الحرب العالمية الثانية، روح القتال ضعيفة، وفي إسبانيا والبرتغال تركت عقود الديكتاتورية العسكرية إرثاً من الشك تجاه الجيش. لكن هذا ليس سوى جزء من الحقيقة الأوروبية.

صرّحت أولغا بيترسن، النائبة السابقة عن حزب «البديل من أجل ألمانيا»، لوكالة «نوفوستي»، إنّ الشباب الألمان لا يريدون الخدمة لأنهم تربّوا على كراهية الوطن وكلّ ما هو ألماني. «الأجيال الأخيرة نشأت على شعارات مثل: «الأطفال العصريون بلا وطن»، وكانوا يُقادون إلى فعاليات بعنوان «تسقط ألمانيا». والآن يريدون تحويل هذا الجيل إلى جنود، بينما أيّ جندي يحتاج على الأقل إلى ذرة من الوطنية».

إنّ كل الإصلاحات العسكرية والتقنية التي يحاول الساسة الأوروبيون والناتو تنفيذها لن تحقق النتيجة المرجوة. فما الهدف إذاً من البدء بكل هذا؟ الجواب بسيط: المال. على المحك تريليون يورو، مضافاً إليه كرهٌ لروسيا. وكما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلة مع «كوميرسانت»: «أوروبا تثبت أنها لم تزل المصدر والمحرّك لكل الحروب العالمية وغيرها، بما فيها الاستعمارية والعبودية. هذا في شفرتها الجينية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1248